خطيبتي المستقبلية.. هذا أنا | المدونة | عمار مطاوع

خطيبتي المستقبلية.. هذا أنا


غاليتي، دائما ما يعتبرون الخطوبة فرصة للاقتراب واكتشاف الآخر، لذا دعيني أساعدك قليلا، أزعم أن لدي معرفة واسعة بنفسي، لقد عايشتها أكثر من عشرين عاما، أعرف عنها الكثير، خصوصا في السنوات الأخيرة.

خطيبتي المستقبلية.. هذا أنا

غاليتي، دائما ما يعتبرون الخطوبة فرصة للاقتراب واكتشاف الآخر، لذا دعيني أساعدك قليلا، أزعم أن لدي معرفة واسعة بنفسي، لقد عايشتها أكثر من عشرين عاما، أعرف عنها الكثير، خصوصا في السنوات الأخيرة.

بداية، أنا أعمل "(1)صحفيا (2)إليكترونيا (3)عبر الإنترنت"، وهوايتي الأساسية منذ سنوات هي (4)العمل الحقوقي.. في الحقيقة، هذه العناصر الأربعة (صحفي- إليكتروني- عبر الإنترنت- حقوقي) خلقت مني شخصية لها سمات محددة.. ولا يمكن تصور الأثر النفسي لكل عنصر من هذه العناصر بشكل منفرد، لا بد من التعامل معاها ككتلة واحدة.. وسأشرح لك بشيء من التفصيل.

أنا صحفي: الصحفي هو كائن يعيش علي متابعة الأخبار، في العادة، يختار الصحفي موضوعا واحدا طول اليوم أو عدة موضوعات أساسية، ينشغل بها ويجمع حولها التفاصيل، لكن للأسف، هذا ليس النوع الذي أعمل به، إذ إنني صحفي إليكتروني.

إليكتروني: الصحافة الإليكترونية لها سمات مختلفة تماما عن الصحافة الورقية،فالسرعة فيها مقدمة على أي شيء، وبالتالي، لم يعد ممكننا أن أضيع اليوم كله في موضوع واحد أو موضوعين، في الحقيقية أنا أقدم للموقع الذي أعمل به 25 خبرا في 6 ساعات، وهو ما يتطلب مني متابعة الأخبار كلها حتي أنتقي منها الأخبار المناسبة.

عبر الإنترنت: العمل عبر الإنترنت يترك في شخصيتي علامتين رئيسيتين: أولها أنني غير اجتماعي، لا أهتم بالمناسبات ولا ألاحظ التغيرات.. وثانيها: أنني أعمل في أكثر من موقع إخباري في وقت واحد.

في المتوسط، أنا أعمل تقريبا 12 ساعة يوميا.. عملي هو التنقل بين مصادر الأخبار بحثا عن خبر مناسب لسياسة المواقع الذي أعمل بها.. الكارثة أن واحد منها دولي، والثاني محلي مصري، أنا أتابع الأخبار في الدنيا كلها.

أنا حقوقي: العمل الحقوقي يجعلك دائم العيش في المصائب والمشكلات، حين يفرح الناس بخبر إطلاق سراح معتقل مشهور، أكون أنا مغموما باعتقال عشرات غيره مغمورين من المحافظات، ربما لا تلاحظين أنتِ هؤلاء المغمورين، هذا هو الفارق بين الحقوقي وغيره.. فكيف لو اجتمع العمل الحقوقي مع العمل الصحفي في وقت واحد!

في النهاية، تركت تلك العناصر الأربعة في نفسي شخصا لا يمتلك رفاهية التفاعل مع الأخبار والأحداث بشكل طبيعي، حين يكون مطلوبا منك 25 خبرا في 6 ساعات فلا وقت لديك للبكاء علي مقطع مرئي لتعذيب طفل أو اعتقال فتاة.. في العمل، أنت تضع مشاعرك جانبا تماما حتي تتمكن من الانتقال للخبر التالي بنفسية محايدة ومتزنة.. لكن المصيبة أن المشاعر مع الوقت تختفي تماما، لأنني لا أستخدمها مع الناس بعد العمل (فعملي عبر الإنترنت كما أخبرتك).

العمل الحقوقي عودني الانتقال اللامنطقي بين المشاعر المتناقضة، أنتقل من خبر عن إخلاء سبيل إلي خبر اعتقال إلي خبر تحرير مدينة سورية إلي الاعتداء علي أسيرات بسجن عراقي.. كل هذه المشاعر المتناقضة كلها أمر عليها في أقل من نصف ساعة، ويكون مطلوبا مني في كل خبر أن أتكيف معه وأعيشه بتفاصيله حتي أنتهي منه، ثم بعدها ألقيه في البحر كأنني لم أتعامل معه.

عودني عملي علي الاستيقاظ صباحا علي مصيبة، والنوم علي مصيبة أخري، وبقية اليوم في مصائب مختلفة، شاركت في توثيق حالات اعتقال فتيات، تعذيب، ترحيل، تصفية، إهانة للأهالي، اعتداءات أخرى لا يمكن تداولها.. لقد اقترب العمل الحقوقي مني جدا بعد اعتقال أختي، فقد تمكنت أخيرا من زيارة سجن القناطر، جالست الحاجة سامية شنن، وهند ورشا، وطالبات الأزهر، وكل من كنت أغطي أخبارهم دون أن أعرفهم.

كل هذا أفرز في نفسيتي استعداد تام للتعامل مع أي مصيبة بعقلانية وجفاف شديد، استئصال تام للمشاعر والعواطف، في الزيارة الأولي لأختي بالسجن، غضبت مني لأنني نسيت أن أسألها عن حالها، بينما رحت أسألها عن عدد الفتيات في العنبر، وشكل الطعام، والعلاقة بالجنائيات، وغيرها من أوضاع السجن.

يوم اعتقال والدي، هرولت أمي خلف المخبرين وهم يجرون والدي في الطريق، بينما صرخت أختي وبقيت تبكي، وخرج أخي الأصغر سريعا إلي قسم الشرطة حاملا علاج والدي قبل أن تمتلكه الغيبوبة.. لكن أنا بقيت علي مكتبي صامتا جافا قبل أن أكتب منشورا لغته صحفية باردة عن اعتقال المواطن بهي الدين مطاوع من أمام منزله قبل قليل!

عليكِ أن تفهمي من هذا كله أنكِ لن تجدي عندي ردود أفعال طبيعية علي أحداث الحياة مثل كل الناس، قد تدخلين حاملة شهادة تقدير فاخرة من مدير عملكِ، منتظرة مني احتفالية تستمر حتي نهاية اليوم، لكن أخشي أن تخيب آمالك، فابتسامة مع شهقة فرح وتهليل يستمر دقائق، ثم صدقيني، فإن الحدث بالنسبة لي قد انتهي تماما!

آه صحيح، أنا لا أتحرك كثيرا، كائن بيتوتي جدا، يمكنني أن أعيش في حجرتي شهر كامل لا أشعر أن لدي رغبة في الخروج، لست من هواة الفُسح والخروجات..  لا تستغربي، هذا طبيعي لشخص يعمل منذ سنوات من داخل حجرته التي يلازمها 12 ساعة يوميا تقريبا.

عندي علي الهاتف برنامج مسؤول عن إغلاق جميع التطبيقات المفتوحة، حتي يتم تهيئة الهاتف لاستقبال تطبيقات جديدة بذاكرة مستعدة.. يمكنكِ بالضبط أن تتصوري هذا البرنامج في عقلي، الصباح عندي يعني نسيان كل ما تم بالأمس، فالمعركة التي أنا مقبل عليها لا تتحمل أن أدخلها محملا بمشاكل الأمس أبدا.

هذه نقطة مهمة جدا، بل والأهم علي الإطلاق، لا بد أن تعرفي أن المشكلة عندي تنتهي في اللحظة التي تبدأ فيها، وبمجرد أن ننتهي منها، فلا مجال للعودة إليها مرة أخري، لأنكِ غالبا ستصدمين حين تكتشفين أنني نسيتها بكل تفاصيلها!.. الحياة أسرع بكثير من أن نضيع يومين في مشكلة حول هاتف وصلني من فتاة لا تعرفيها، أو غيابي الغريب عن فرح ابنة خالتك.

لا تستغربي، هذه هي طبيعة العمل الذي أعمل به، الأحداث سريعة، والخبر الذي تمر عليه ساعتين يصبح خبرا رتيبا مرفوضا لأنه قديم، التحديثات دائما مشتعلة، ليس من المعقول أن أبقي أسيرا لمشكلة حياتية عدة أيام، بينما في عملي طالعت أكثر من ألف خبر وحادثة جديدة.. ما هذه الرتابة والملل!

أما عن كيف أقضي يومي، فقد كتبت منشورا قبل أيام علي الفيسبوك أصف فيه مجموعة من الأخبار التي تعاملت معها في الساعات الأخيرة من يومي.. في الحقيقة هذا المنشور يعبر عن أكثر أيامي هدوءا، ولعل الدليل علي ذلك هو أنني كان لدي من الفراغ ما يكفي لتلخيصه في منشور مكتوب.. لكني وجدت في تعليقات الناس مفاجأة هي التي دفعتني لكتابة هذا الموضوع.

الناس كلها انصبت تعليقاتها عليّ أنا، بعضهم لم يصدق أن شخصا واحدا يمكن أن ينغرس في متابعة كل هذه الأخبار بهذا الشكل، بل ذهب بعضهم إلي التشكيك في كلامي مؤكدين أن هذا الأمر لا يتسق إلا مع شخص لا شغلة وراءه ولا مشغلة.. مساكين، لا يعرفون أن هذا هو شغلي بالأساس:
كيف استطعت أن تتحمل كل هذه الأخبار في يوم واحد؟
يجب أن تزور الطبيب النفسي يا عمار
أنا يومي اتقفل بسبب البوست ده يابني
لو قرأت خبرين بس من دول كل يوم كان زماني جالي شلل في أسبوع
ربنا يكون في عونك يابني، أنا لو مكانك كانت جاتلي المرارة

هكذا استمرت التعليقات علي هذا المنوال، بينما أنا كدت أن أرد عليهم بأن هذا ما هو إلا "يوم رايق" في حياتي.. أنا أعيش علي هذا الشكل منذ ثلاث سنوات تقريبا.. والله بلا مبالغة، أعيش علي هذا المنوال منذ ثلاث سنوات!

بعد هذا المنشور فقط، انتبهت إلي ما يحدث في شخصيتي ونفسيتي، أنا أتدمر، لا، في الحقيقة أنا تدمرت فعلا، لم أهاتف أعز أصدقائي منذ أشهر، لم أحضر أفراح من تزوج منهم، لم أودع من سافر، في الحقيقة أيضا، أنا ليس لدي أصدقاء مقربين، لأنني لا أنزل من السكن أصلا.

صدقيني، أنا مشفق عليك جدا، لقد كُتب عليك أن تعيشي مع إنسان غير سوي المشاعر، ولا طبيعي الارتدادات.. مشغول طوال الوقت بالأخبار وتحديثاتها، لا يري أي شيء مهم في الحياة، فمهما كان الخبر مهما، فإنه بعد ساعة سيصبح قديما، وسيظهر ألف خبر أهم منه، هكذا يقول مديري في العمل: الأخبار مثل مغارة علي بابا، إياك أن تبقي أسيرا أمام جوهرة، المغارة ممتلئة بغيرها.

أنا لا أكتب كل هذا لأشعل الخوف والقلق في خاطرك، لكن لتعلمي حجم المهمة التي أنتِ مقبلة عليها، في الحقيقة أنا خسرت كل الرهانات التي تمنيت أن تساعدني في العودة إلي النسق البشري المستقيم، ولم يتبقى لي سوى أنتِ لأراهن عليها.. إن مهمتك الآن أن تصنعي من هذا "الشيء" إنسانا جديدا.
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.