اصعد الجبل كي ترى العالم.. لا كي يراك العالم | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

اصعد الجبل كي ترى العالم.. لا كي يراك العالم


لقد مررتُ من هنا، على ارتفاع ثلاثة آلاف متر فوق سطح المحيط، بين أناس طيبين.. تعلمتُ منهم أن الحياة بسيطة قدر ما رأيناها بسيطة، وهينة قدر ما نهونها.

اصعد الجبل كي ترى العالم.. لا كي يراك العالم

في البلدات الصغيرة فوق جبال الأنديز، يحكي السكان الأصليون مثلا شعبيًا يقول: "اصعد الجبل كي ترى العالم، لا كي يراك العالم".. منذ سمعتُ تلك الجملة وأنا أفكر بطريقة مختلفة حيال علاقتي بمنصات التواصل، وبالحياة عموما.

في بلاد ما وراء الأمازون، لا يزال كل شيء في حياة القرويين حقيقيا تماما، لم تعبث التقنية بعدُ بمشاعرهم ولا تصوراتهم.. لذلك، رغم فقرهم ورقّة حياتهم، تجدهم أكثر سعادة من ساكني الناطحات في مانهاتن أو صحاري الخليج..

كيف ذلك؟ ببساطة لأنهم لا يستخدمون الكاميرا.. السعادة هنا غير السعادة هناك، لا يزال الناس ينامون ملء جفونهم سعداء حين يهديهم أحدهم قبلة اشتياق أو زهرة من وادي الجبال دون شهود.. يفرحون بالتفاصيل الخفية ولا يهرولون لمشاركتها إلى الجماهير هنا وهناك.

أما نحن، فسعادتنا اليوم مشوّهة قبيحة، باتت رهينة الاشتهار والتصدر، جامدة كأكواد البرمجة التي تُكتب بها تطبيقات المشاركات والتواصل.. أسرى أرقام الإعجابات والمشاهدات، وباتت سعادتنا لا تكتمل إلا إذا شعرنا أن عينا هناك تراقب لحظتنا وتشهد عليها.

لماذا صرنا نسعى دائما لخطف أنظار الناس وجذب الانتباه؟ ولماذا بات الاستمتاع بالحياة مقتصرا فقط على ما نُظهره للناس من أخبارنا؟ لماذا أضحى النجاح مرتبطا في أذهاننا بالقدرة الأوسع على الوصول إلى الجمهور والمتابعين؟ ولماذا تفقد تجاربنا متعتها إذا لم تكن محفوظة على شاشات الأنستجرام والتيك توك؟

لقد مررتُ من هنا، على ارتفاع ثلاثة آلاف متر فوق سطح المحيط، بين أناس طيبين.. تعلمتُ منهم أن الحياة بسيطة قدر ما رأيناها بسيطة، وهينة قدر ما نهونها.. وأن كل أسرة أو صحبة تشاركنا سعادتنا، هي الدنيا بأسرها، هي كل الملايين التي تعج بها منصات التواصل.


 ~

يامانجو - الإنديز

نوفمبر 2020


شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.