الواقع المصري في أعمال يوسف الشريف | المدونة | عمار مطاوع

الواقع المصري في أعمال يوسف الشريف


المسكين الذي يلعب به يوسف الشريف بكل الطرق، حتي يفقد الثقة في عقله، ويكف عن التفكير، ويستكين كالطفل في زاوية أمام الشاشة يستمع إلي الحلقات المتتالية في سكون، بعد أن يعلن استسلام عقله عن التنبؤ بما يشاهد

الواقع المصري في أعمال يوسف الشريف

"الجسر اتكسر والحمام الزاجل اتسم، في حد عاوز يحبسنا جوا الكَفر.. لو حصلت كارثة هنا محدش هيعرف عنها حاجة" - هادي الجيار في كفر دلهاب

من بين مئات الممثلين والفنانين المصريين والعرب، يقف يوسف الشريف وحده في زاية تفرد تعطيه طعما خاصا، للسنة السادسة علي التوالي، حيث الغموض والرعب في أعماله العربية، التي يتبادر إلي الذهن منذ الوهلة الأولي أنها أوروبية غربية، أو علي أقل تقدير، يقوم علي إخراجها مخرج هوليودي.

بعد أيام، ستحل الحلقة الأخيرة من مسلسل العام الجاري «كفر دلهاب»، مشاعر متداخلة لدى جمهور يوسف الشريف -وأنا منهم- عن تطور أسلوبه من عام إلى عام، فالفارق بين لعبة إبليس والصياد والقيصر، كبير جدا، لكن التطور هذا العام هائل، والقدرة علي الإبداع بنفس فريق العمل بشكل يختلف كلية عن  سابقه.

إنه أمر مبشر، فالخوف الأكبر علي يوسف وفريقه ينبع من خشية انتهاء ما في جعبته، وأن يبدأ في تكرار نفسه، لكن ليس قدرا أن يختار يوسف هذا العام شخصية "الساحر"، ربما يوجه رسالة للجميع أن جعبته لا يزال يملؤها الكثير.

أنا من هواة أعمال يوسف على أية حال، شاهدتُ كافة أعماله الدرامية، المواطن إكس ورقم مجهول وزي الورد واسم مؤقت والصياد ولعبة إبليس والقيصر وكفر دلهاب، القاسم المشترك فيها أنها تدور كلها في فلك التشويق والإثارة وإجبار المشاهد علي أن يكون ذهنه حاضرا طول فترة العرض.

لكن الأهم من هذا كله، أن أعمال يوسف الشريف لا تلعب فقط علي الجانب التشويقي، وإنما تضرب في صحن الواقع المصري -بقصد أو بدون قصد- من جهة ربما لا يوجد غيره من الفنانيين يدخلها.. أقول بدون قصد لأنني -كمنغمس في الشأن السياسي والاجتماعي- أجد تفسيراتي دائما ما تنزع نحو التسيس والربط الاجتماعي.

على العموم، لست أنا وحدى من أقام هذا الربط بين أعمال الشريف والواقع المصري المعاصر، حتى إن واحدا من الهاشتاجات المعارضة المتصدرة خلال الأيام الماضية حمل اسم (السيسي دلهاب مصر).

في الحقيقة، لا أعرف شيئا عن أراء يوسف السياسية، لكن من الواضح أن فريق عمله الذي يضم ممثلا كطارق النهري -صاحب التاريخ الميلشياوي المعروف- يكشف بوضوح أنه لا يتبنى وجهة نظر معارضة للنظام، وإلا لتحفظ النهري -المُخلص- عن العمل معه.

على أية حال، يوسف الشريف ممثل، والتفتيش عن آرائه السياسية لا فائدة من ورائه، لذلك دعونا نتجاوز شخصه إلى أعماله، فهي في النهاية ما سيبقى من تراثه، وهي الأولى بالتتبع.. هذا تمهيد طويل لأقول منه بوضوح أنني لا أريد أن أقحم شخص يوسف في النزاع السياسي، أنا شخصيا لا أحب له ذلك.

الرجل لحسن الحظ يفهم هذا جيدا، ولذلك سارع بالتأكيد على أن العمل لا يحمل مرامٍ سياسية، رغم ابتسامته المترددة حين سأله عمرو أديب: إنت عامله في زمن مجهول عشان تقول فيه اللي إنت عايزه براحتك؟

قبل عامين، مسلسل الصياد دارت قصته في مقرات الشرطة، تحديدًا في مقر أمن الدولة، كشف فيه يوسف كواليس "فساد" الداخلية وسيطرتها علي سوق الدعارة والسلاح والجرائم المختلفة.. الحقيقة أنك بعد نهاية المسلسل، ستدرك أن المجرم في مصر ليس هو من يرتكب الجريمة، ولكن من يرتكبها خارج سيطرة "الدولة"، أو يحاول الخروج عن تلك السيطرة.

للمرة الأولي يتعرض أحد الأعمال الفنية للشرطة من جانب يكشف سوء أعمالهم بهذا الشكل، حتى إنك لا تجد نفسك متعاطفا مع قتلى الشرطة علي يد الصياد، فهم مجرمون متورطون في قتل ابنه وزوجته، يستحقون أن يذبحهم الصياد صاحب اليد اليسري بهذه الطريقة القاسية، وأكثر!

في لعبة إبليس، يقتحم المسلسل مجال الإعلام، وعالم أصحاب الفضائيات، وكيف يديرون أعمالهم، ويختارون ضيوفهم، وكيف يؤثرون علي الرأي العام، وكيف يتم توجيه برامجهم من جهات عُليا.

لا ينسي المسلسل هذه المرة أيضا أن يكشف عن دور قيادات الداخلية في السيطرة علي الإعلام والحرص علي شراكة أي قناة ناشئة، ويمتلك فعليا علاقات واسعة مع كل الإعلاميين القدامي والجديد، وعلي إطلاع كامل بكل أسرار الإعلام، ويستطيع الوصول إلي كل ما يريد بشتى الطرق، حتي لو وصل الأمر للتهديد والتخويف أو الترغيب ومنح الصلاحيات.

في القيصر، شهدت حلقاته الأولى إبرازا لملف السجون المصرية، وعلى الرغم من أن المسلسل لم يقدم الصورة بشكلها الحقيقي المفجع، إلا أنه أبرز بشكل أو بآخر بعض الانتهاكات غير المبررة من قبل إدارة السجن -وقائده طارق النهري- بحق المعتقلين، ويعرف المهتمين بالشأن الحقوقي أن سجن المغارة الذي ظهر في المسلسل هو بعينه سجن العازولي العسكري- سيء السمعة.

هذا العام، يبدو أن كفر دلهاب أكثر من مجرد قصة مرعبة كما أريد لها أن تنتشر، لكنها عكست الواقع المصري بشكل كبير للغاية، فالمسلسل يتحدث بوضوح عن لعنة الدم التي عمّت كفر دلهاب،  بعد قتل فتاة شابة تُدعى ريحانة، شارك في قتلها تحالف ضم رجال الأعمال، والقضاء ممثلا قاضي المدينة، والشرطة ممثلة في شيخ الغفر، الذي سيخبر يوسف الشريف بوضوح في نهاية المسلسل أنه على استعداد أن يدمر الكفر بمن فيه في سبيل ألا يعرف الناس الحقيقة.

الرسالة المرجوة من المسلسل واضحة، طالما بقيت لعنة الدم فلا استقرار ولا حياة لشهود الزور، وأن الدم معلق في رقاب الجميع بلا استثناء، و"الجميع يعرف ما عليه فعله"، أو كما لخصها يوسف ببراعة: "إحنا شعب مريض بالخوف.. ولازم الطبيب اللي بيعالجهم ياخد باله كويس قوي.. عشان العدوى متوصلوش؛ لأنه لو اتعدى هيرقد مع الراقدين والمرض هيقضي على الكل".

في النهاية، يفعل الشريف وفريقه كل هذا، دون أن يفقد المشاهد متعة العرض، دون أن ينتبه حتى، أو يخسر عنصر التشويق والذهن المرهق من كثرة التفكير، المسكين الذي يلعب به يوسف الشريف بكل الطرق، حتي يفقد الثقة في عقله، ويكف عن التفكير، ويستكين كالطفل في زاوية أمام الشاشة يستمع إلي الحلقات المتتالية في سكون، بعد أن يعلن استسلام عقله عن التنبؤ بما يشاهد!

شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.