ذو الوجهين وسجن صيدنايا.. رقصة محور الشر الأخيرة | مدونة عمار مطاوع

ذو الوجهين وسجن صيدنايا.. رقصة محور الشر الأخيرة


الزنازين المرسومة بمتاهة عشوائية كفسيفساء ناقصة.. يكاد الضابط حين يخرج من زنزانة لا يعرف كيف يعود إليها، ربما يُضفي هذا بعض المرح على السجانين

ذو الوجهين وسجن صيدنايا.. رقصة محور الشر الأخيرة

"لا داعي لقتله!".. فقط من عاشوا ميثولوجيا باتمان يعرفون الشخصية التي ترتبط بها هذه العبارة.. ذو الوجهين، الشرير الخلوق، الذي اخترعه مؤلف الميثولوجيا نقيضا لشخصية الجوكر الفوضوية بلا أخلاق أو حدود

كان مؤلف المثولوجيا مترددا حيال شخصية ذي الوجهين.. إذ كانت كل شخصيات عالم جوثام بسيطة واضحة مباشرة.. باتمان، رمز للخير المطلق.. يقابله الجوكر، أيقونة الشر الخالص.. لذا، كانت المخاطرة برسم شخصية ذو الوجهين كبيرة
لم يكن ذو الوجهين يقتل إلا للضرورة، وكان ينهر أتباعه إذا ارتكبوا فعل القتل دون داعٍ.. ولتبرير ذلك، أرجع مؤلف الميثولوجيا السبب في كونه "شرير من عالمنا الواقعي".. فالأشرار -حتى الأشرار- لديهم نقطة حمراء يرسمونها لأنفسهم، لا يتجاوزونها مهما كانت الأسباب
أدرك المؤلف أن "الخير المطلق" و"الشر اللامتناهي" لا يمكن أن يحصل إلا في عالم الخيال.. لأن الشر الحقيقي دائما له حد أقصى، وسبب، وغاية، ومنطق، حتى لو كان منطقا فاسدا
ربما تفهم الآن لماذا تسمع في كثير من المسلسلات على لسان شخصية المجرمين عبارات نحو: "إحنا نسرق آه، لكن ملناش في الدم".. عبارات كتلك تقال على ألسنة مجرمين أشرار وفق رسم أبطال العمل.. لكنك رغم ذلك لا تشعر بالغرابة، بل وأحيانا، تُبهرك هذه الوسمة بشخصية البطل الشرير الخلوق!
لكن هل فكرت يوما، لماذا يفعل الأشرار ذلك؟ لماذا يحرصون على خلق منظومة إجرام لها خطوطها الحمراء؟ ربما ليجدوا في صراعتهم سلوى عن الهمجية والبربرية والوحشية.. بقايا آخر قطرة من رصيد إنسانيتهم المنفية خلف جنون إجرامهم
لكن ما لم يعلمه مؤلف الميثولوجيا، ولا الجمهور، ولا حتى الجوكر نفسه.. أن ثمّة شرير يمكنه أن يكون شرًا خالصا، بلا منطق ولا سبب.. بنى ما يسمى بـ"محور المقاومة" في سوريا منظومة مرعبة من الشر اللامتناهي.. الشر الذي لا مبرر له، ولا طاقة لأحد على احتماله، ولا يستفيد منه أحدا على الإطلاق، حتى هؤلاء السجانون الأشرار الذين يتمتعون فيه بربوبية زائفة يعبثون فيها بحيوات الناس ومصائرهم

سجن صيدنايا أكبر من مجرد مكان حبس وعقاب وضبطية وإنفاذ للقانون، أكبر حتى من مسلخ بشري أو مقبرة إعدام على قيد الحياة.. لكنه منظومة كاملة من الشر والإيذاء والبربرية والوحشية.. كل تفصيل فيه صُنع بغلِّ وكره.. ليس فيه من العشوائية شيء.. سوى عشوائية الشر المطلق
لم نعرف بعدُ شيئا عن هذا السجن.. لكن طرفا عابرا مما رأيناه يكفي لفهم ما كان يفكر فيه منتسبو المحور حين أقاموه، وحرسوه، وسوروه، وأعانوا سجانه، وأسندوا حارسه.. ليُكتب له البقاء والاستمرار طويلا
الزنازين المرسومة بمتاهة عشوائية كفسيفساء ناقصة.. يكاد الضابط حين يخرج من زنزانة لا يعرف كيف يعود إليها، ربما يُضفي هذا بعض المرح على السجانين.. أحبال الشنق اليدوي (والانتحار أيضا لمن أرادوا دفعه لذلك) ملقاة في كل مكان على أرض السجن.. ومكابس الأجساد تحوّل جثتك بعد قتلك (وربما وأنت على قيد الحياة) إلى نفايات بشرية تجري دماؤهم في مصارف المجاري.. والزنازين الخالية من أي حياة مدنية أو بدائية، مُقفلة بأبواب رقمية تجسد آخر ما توصلت إليه "الحداثة" والرقمية
هذا الشر اللامتناهي الذي حملته قلوب منتسبي المحور، وجسدته منظومة "صيدنايا" الباعثة على الجنون، يدفعك للتفكير في إنسانيتهم وما تبقى منها.. وكيف أن خيال كاتب أكبر ميثولوجيا للشر في التاريخ، وقفت عاجزة على تخيل "واقعية" حصول هذا القدر من الشر في عالمنا، لأن الشرير -حتى الشرير- يحكمه قانون الجدوى، والفائدة، والغاية
لكن بعض الشر يفقد منطقيته حين ينزلق إلى مساحات الجنون، وييغيب عنه أي قدرة على الضبط، ويتجاوز المتوقع، ويخرج عن سقف الإبداع إلى منزلقات الإسفاف.. هذا ما حصل في "عالم صيدنايا" تحديدا، جنون الشر، وإسفاف التعذيب.. هنا يفقد المنطق قيمته، وتغيب أي زاوية للتناول أو التأمل
أخيرا، ربما تتذكر في لعبة المصارعة الحرة، كيف كان المصارع لا يستخدم ضربته القاضية إلا بعد استنفاد قدرته على الحسم بدونها.. ربما ليصنع لاستخدامها قيمة ومنطق، وللحاجة إليها نضال يمكن للجمهور فهمه.. إذ لو كان أول ما يفعله حين يصعد الحلبة هو حسم المعركة بالقاضية، لاعتبره الجمهور شريرا مسرفا في الشر
هكذا، لا يمكن وصف منظومة الشر في "صيدنايا" سوى بإنها صدمة لإنسانيتنا جميعا.. وبيان عن حجم الشر الذي يحمله العدو دون أي ملامح لشرف الصراع.. فالشرير -أي شرير- يعرف أنه لو انتصر بشر استثنائي فلا قيمة لانتصاره، وأن الحفاظ على توازن الضرب، وشرف الخصومة، هو ما يُشعل نشوة النصر لحظة الغلبة
أدرك ذو الوجهين هذا المعنى الإنساني العميق رغم كونه رسم على ورق.. وغاب عن بشار وسليماني ونصر الله وخامنئي وبوتين، وكل حراس منظومة سجن صيدنايا وخالقيه وداعميه بالسلاح والعتاد، وهم -في عرفنا القاصر- بشر يمتلكون إنسانية!

شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.