الجيل الانفصالي في إسرائيل.. خطر نوعي يتهدد الكيان | مدونة عمار مطاوع

الجيل الانفصالي في إسرائيل.. خطر نوعي يتهدد الكيان


يمكن القول بجلاء إن البناء الاجتماعي الصهيوني قائم بالأساس على الاشتراك في إراقة الدماء منذ يومه الأول، وأن ثمة ما يمكن وصفه بـ "متسلسلة إراقة الدماء"

الجيل الانفصالي في إسرائيل.. خطر نوعي يتهدد الكيان


ما ذلك السمُ في الآبار!؟ ويلكم! ... ومن نحارب؟ جنداً أم ثعابينا!؟

السابعة صباحا بتوقيت القاهرة، الخميس 10 يونيو من العام 1948، ألقى الأستاذ على الجارم، بيانا عاجلا على الإذاعة المصرية عبر الأثير، صاغه في قصيدة شعرية توثق لانتصارات الجيش المصري على العصابات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية.. كان من بينها هذا البيتٌ الذي يرصد فيه مشهدا من بشاعة الجنود الصهاينة الذين كانوا يلقون الجثث الميتة في آبار المياه بالقرى الفلسطينية قبيل انسحابهم، كي يفسد ماؤها ويموت كل من يحاول الشرب منها.

كان هذا السلوك غريبا على الوعي الثقافي والعسكري المصري، وعلى العقيدة القتالية للجندي المصري الذي يحارب وفق قواعد اشتباك أخلاقية قبل كل شيء.. بينما على الجانب الآخر، كانت ثمة عصابات، بكل ما تحمله العصابات من صفات وملامح وسلوك.. قتل للمدنيين، وانتهاك لكل مقدس ومحترم، وتركيز جلي على إظهار الوحشية والبشاعة، وكأنها جزء مقصود من حملة دعائية مهندسة بعناية.

اختبر المصريون بعد ذلك لسنوات تلك اللأخلاقية الصهيونية في سيناء، وارتسمت في مخيلتنا -كمصريين وعرب- صورة للعصابي الصهيوني المتستر خلف اسم دولة وعلم بلد وزيّ موحد، صورة أقرب ما تكون لوحشي بلا أخلاق ولا غاية سوى التدمير والإفساد، وارتكاب لفعل القتل والترهيب لمجرد القدرة، لا لغاية مقصودة ولا لهدف مشروع.

لكن هذه لم تكن محض صورة متخيلة، بل أساس رئيس بُنيّت عليه السردية الصهيونية في تعريف "المناضل لأجل الدولة الإسرائيلية"، ليغدو رصيدك من حصة النضال لأجل إسرائيل، هو نفسه ما تزنه من دماء منتهكة وأرواح توغلت فيها.. وصارت كل صورة توثق لانتهاك، هي دليل افتخار لمرتكبها في مجتمعه الوليد.. وصارت "إسرائيل" مدينة (من الديون لا التمدن) لكل من ساهم في بنائها بسفك الدماء وانتهاك المحرم.

وهكذا، يمكن القول بجلاء أن البناء الاجتماعي الصهيوني قائم بالأساس على الاشتراك في إراقة الدماء منذ يومه الأول، وأن ثمة ما يمكن وصفه بـ "متسلسلة إراقة الدماء"، يجب أن يُحافظ فيها على استمرار المشاركة في "منظومة القتل" من جيل إلى جيل في إسرائيل.. استمراريةٌ تشترط أن يشترك الجميع في فعل الفتل، كي لا ينبش أحد في ماضي "الدولة"، ولا يزايد أحد، أو يدعي التطهر في المجتمع الإسرائيلي. 

بات اليوم أكبر خطر يتهدد الكيان الإسرائيلي هو انفصال الجيل الصاعد عن متسلسلة الدم، وأن يخرج جيل أكثر مدنية و"دولانية"، لم يشارك في القتل، أكثر تصالحا مع محيطه، وأقل تشبثا بالدفاع عن الإرث الاستعماري، وأقرب دعوة لمنح الفلسطينيين حقوقهم وطي صفحة الانتهاكات بحقهم.

لذلك، تحكي المجندة الإسرائيلية عيدين أفرجيل، التي نشرت صورا لها عام ٢٠١٠، وهي تسخر من أسير فلسطيني مقيد على أحد الحواجز، بأن هذا السلوك (التقاط الصور التذكارية بعد ارتكاب الانتهاكات)، يُعد سلوكا شائعا بين المجندين الإسرائيليين، حتى إنه ليكاد يكون من بديهيات انتهاء الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي امتلاء ذاكرة هاتفك بحصة كافية من الصور التي توثق لمشاركتك "السعيدة" في بناء إسرائيل عبر "الانتهاكات والقتل"، وأن علامة "حسن الأداء" في خدمتك العسكرية، رهينة ما تحققه من "أرقام قياسية" في التغول والجرأة على حياة الفلسطينيين وكرامتهم وحياتهم.

في ضوء هذا، يمكن فهم لماذا يبدو شائعا في الحرب الجارية أن يتوسع الجنود الإسرائيليون في ارتكاب فعل القتل في غزة بدون أي ضرورة أو تبرير عسكري، يقتل الجنود الإسرائيليون عشرات الفلسطينيين كل يوم ضمن رهانات مازحة، أو تفجير مبانٍ كاملة في القطاع أثناء لعب الجنود لكرة القدم (فيديو)، أو الحرص الدائم على التقاط الصور التذكارية بجوار الجثث والأنقاض وألعاب الأطفال وملابس النساء.

الخلاصة أن المجتمع الإسرائيلي قائم منذ يومه الأول على المشاركة الجمعية والجماعية في انتهاك الدم، وسرقة الأرض والممتلكات.. وأي انفصال في هذا التسلسل عبر جيل غير مشبّع بالمشاركة في "متسلسلة الجرائم" يمكن أن يسبب شرخا عاصفا بالبنيان الإسرائيلي، ويفتح بابا لا يمكن سده من "التطهر" و"مخاصمة الماضي" والنبش في "أخلاقية الدولة" وشرعية بنائها.. ولا حل لمنع ذلك سوى بتوريط الجميع في الدم والانتهاك، فيصبح كل "مواطن" في إسرائيل، هو نسخة أخرى من بن غوروين وشارون ونتنياهو، ويبقي "المنطق العصابي" محفوظا وباقيا، لتبقى معه "فكرة إسرائيل" غير مُهددة بالسقوط من الداخل.
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.