رجما بالغيب! | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

رجما بالغيب!


لقد لخص القرآن الكريم "منهج التوثيق لدى بنى إسرائيل" في تلك الواقعة في كلمتين فقط: "رجما بالغيب"، ورصد شكلا من أشكال هذا الرجم في تحديد عدد أصحاب الكهف، فراح الأحبار يتراشقون التكهنات، ما بين خمسة إلي تسعة، دون أن يقدم أحد منهم دليلا علي زعمه.

رجما بالغيب!

نشرت هذه التدوينة أول مرة بموقع ساسة بوست عبر الرابط

"يا أهل مكة وكنانة العرب، إن محمدا يزعم أنه عليم بأمرنا أكثر منّا، جئناه كي يسأل ربه في خبر أصحاب الكهف، فزعم ما لا نعرف له أصلا".. ربما هكذا صرخ الحبر اليهودي على تبة مكية بعدما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل عليه في سورة الكهف عن قصة أصحابه وكلبهم.

بدا موقف النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفا هذه المرة، إن العارفين يعلمون أن أصحاب الكهف كانوا في زمان بنى إسرائيل، هم لا شك أعلم الناس بأمرهم، هيهات يا محمد إذن تزعم في الأمر ما لا يعرفون!

لكن هنا مغالطة تبدو منطقية للوهلة الأولى.. من قال إن ورود قصة أصحاب الكهف في زمن بني إسرائيل يجعلهم أعلم الناس بخبرهم؟

يعالج القرآن في هذه الآيات تلك الفكرة، إذ إنك حين تشهد حدثا، ثم تمر الأيام دون أن توّثق ما شهدته بوسائل عملية، فإن امتيازية شهودك للواقعة تتهاوى يوما بعد يوم.

لقد لخص القرآن الكريم "منهج التوثيق لدى بنى إسرائيل" في تلك الواقعة في كلمتين فقط: "رجما بالغيب"، ورصد شكلا من أشكال هذا الرجم في تحديد عدد أصحاب الكهف، فراح الأحبار يتراشقون التكهنات، ما بين خمسة إلي تسعة، دون أن يقدم أحد منهم دليلا علي زعمه.

راحت امتيازية بنى إسرائيل إذن، وغابت حصرية المعرفة، بل أعطي ذلك الحق لأي مدعٍ أن يقول في خبر أصحاب الكهف ما يشاء، فآنى لأحبار بني إسرائيل أن يثبتوا كذب ادعاء محمد، بينما هم أنفسهم لا يعرفون دليلا علي ما يزعمون أنه الحق الخالص!

يا محمد، لا فائدة من الجدال مع هؤلاء الأحبار، إنهم لا يعرفون إجابة.. سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم، ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم.. سيخرج من يقول إنه لا كلب في تلك القصة، لقد كان جملا.. لا تستغرب، كن مستعدا لأي مقالة قد تجيء.

لقد وضع الإسلام في مقابل منهجية (رجما بالغيب) منهجية أخرى أكثر توثيقا وثبوتية، حين قال: فلا تمار فيهم إلا (مراء ظاهرا).. هكذا يجب أن يكون انتقال المعرفة من جيل إلى جيل.. مراء ظاهر واضح لا لبس فيه ولا تكهن، لا مكان فيه للأقاويل أو الأحجيات.. يا محمد، هؤلاء المؤلفون "لا تستفت فيهم منهم أحدا"!

الكهف الجديد!
إن الحركة الإسلامية في عصرنا الحالي تفتقر إلي آلية توثيق واضحة للتاريخ والأحداث رغم تسارعها، لا يعرف الإسلاميون أعدادا تقريبية للمعتقلين، ولا عدد الشهداء، ولا ترتيب المذابح، حتى مذبحة رابعة لم تلق توثيقا يليق بأحداثها حتى الآن.

الانقلاب ذكي، فالاتهامات التي وجهها إلي قيادات الحركة الإسلامية لم تكن محض صدفة أو اجتهاد يتيم، لا توجد من بين الاتهامات سرقة ولا اختلاس، وإنما القاسم المشترك بين جميع الاتهامات.. أن لها سند تاريخي حقيقي.

بعد مائة عام، قد يجلس شاب إسلامي يطالع تاريخ مصر عام 2015، ليجد أنه "حكمت المحكمة على الرئيس محمد مرسي بالسجن عشرين عاما في قضية أحداث الاتحادية".. سيسارع الشاب إلي آداة البحث للتنقيب عن معلومات حول "أحداث الاتحادية"، سيجدها حقيقية!.. لقد حدثت بالفعل!

سيذهب ذلك الشاب إلى والده صاحب اللحية الكثة، يسأله عن تلك الواقعة، يروح الوالد الشائخ يروي تفاصيل وأعداد وتواريخ مختلفة تماما عما حكاها أخوه، عمّ الشاب.. وربما هي مختلفة كليا عما يحكيه أستاذه في الجامعة حين كان شاهدا ذات يوم علي تلك الأحداث.

سينصب اعتماد كل فصيل منهم علي مبدأ أنه (ليس من حضر كمن سمع)، لكنه لا يعلم أنها ليست قاعدة مطردة، فبعض الحاضرين لا يرون إلا بعين واحدة، وشهادة المتحيزين ناقصة كيفما كانت.. وستبقي الكلمة الأخيرة للأوراق المثبتة، وهي في الحقيقة غير موجودة.

سيكون موقفا مؤسفا حين يقف الشيخ الكبير الذي حضر رابعة وماسبيرالثانية وبين السرايات والمطرية ورمسيس.. لكنه يفقد قيمة شهادته، وتروح حصرية حضوره.. ويكون مقامه مثل مقام من سبقوه بمنهجية (رجما بالغيب) قبله، ويجد نفسه أمام نبضات الشاب الواقف أمامه، ويسمعها وهي تناديه: لا تستفت فيهم منهم أحدا!
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.