شاهد قبل الحذف! | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

شاهد قبل الحذف!


والحقيقة، إن المعادلة هنا غير منصفة علي الإطلاق، يكابد خيرة شباب الإسلاميين كل يوم في الميادين والساحات والجامعات، بحثًا عن فرض واقع مصري أكثر حرية، لكنهم لا يعيشون لحظات الاستمتاع بثمرة جهادهم، إذ يقضون قتلًا في الشوارع أو قهرًا في السجون.. وفي الأخير، ينعم بنسائم الحرية من كان مستترًا خلف شاشته الزرقاء يصف الشهيد بتاجر الدين وخروف التنظيم.

شاهد قبل الحذف!

تم نشر هذا المقال في صحيفة هافينغتون بوست عربي، ويمكن مطالعته عبر الضغط هنا

في الحقيقة، كانت خطتي أن يكون موضوعي الثاني هنا عن واقع التيارات الإسلامية المصرية، وما يموج داخلها من صراعات تأسيس جديد، في ظل الواقع المفروض عليها قسرًا، والذي يدفعها يومًا بعد يوم إلى مسارات أكثر وضوحًا، وأعلى مخاطرة، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، الكتلة الأكثر صلابة والأوسع نفوذًا بين القوى الإسلامية الصريحة على الأرض.

لكن حذف مقالي الأول: "رحلة في العقل العلماني بمصر"، جعل المضي قدمًا في الخطة الافتراضية الأولى مستحيلًا، إذ إن الحالة النقدية لا يمكن تصورها إلا إذا تأتت الصورة فيها كاملة دون نقصان، وإن اقتصاص الجناح العلماني من المشهد يجعل العمل الكلي مشوهًا، كالزرعة التي لا يخرج ثمرها إلا إذا اكتملت عناصر بنائها.

وربما كان البدء بالمعسكر العلماني في تلك السلسلة نابعًا من قناعتي بأن ذلك المعسكر المتلون هو أخطر عناصر الصراع، لأنه دائمًا ما يرث منجزات التضحيات في النهاية، كما الأجنحة الصريحة المتصارعة في أي صراع، لا يمكن وضع ملامح مضطردة لحالتها، إذ إن عناصرها خاضعة دومًا لمواجات الضغط والتحول، نظرًا لوقوعها وسط دائرة الصراع، فما قد تطلقه عليهم ليلًا، قد لا يصدق عليهم صباحًا.

لكن الجناح العلماني، المتخفى، الأثر جمودًا وثباتًا، القابع خلف لافتات أكثر تلونًا، القريب والبعيد من هؤلاء وهؤلاء، المتربص في زاوية الميدان بحثًا عن جيفة يتركها المتصارعون لينقض عليها، مكتفيًا بها، مستثمرًا لها.. هؤلاء هم الوارثون عادة للمشهد النهائي الأخير، الراكبون علي تضحيات من كانوا يصفونهم بالمتطرفين اليمنيين أعداء الإنسان.

والحقيقة، إن المعادلة هنا غير منصفة علي الإطلاق، يكابد خيرة شباب الإسلاميين كل يوم في الميادين والساحات والجامعات، بحثًا عن فرض واقع مصري أكثر حرية، لكنهم لا يعيشون لحظات الاستمتاع بثمرة جهادهم، إذ يقضون قتلًا في الشوارع أو قهرًا في السجون.. وفي الأخير، ينعم بنسائم الحرية من كان مستترًا خلف شاشته الزرقاء يصف الشهيد بتاجر الدين وخروف التنظيم.

بعد سنوات من الآن، سيتصدر الشاشات متحدث باسم كيان كذا وكذا الثوري، قانع بأنه يمثل كيانًا بطوليًّا استطاع اقتناص مساحة حرية عبر مسيرة أمام نقابة الصحفيين للمطالبة بتعديل قانون.. سيسمونه يومئذٍ ثوريًّا مغوارًا، لكن الحقيقة أن الشهيد فلان وفلان وفلان هم من صنعوا الحالة التي سمحت لهذا البطل العظيم أن ينظم تظاهرته البائسة.. فعلها الشهداء حين كان ذلك المغوار متوريًا يلعن الشهيد وقاتله في هتاف واحد.

رابعة.. مذبحة تضامنية!

وقبل أسابيع، مرت ذكرى المذبحة الأكثر دموية في التاريخ المصري الحديث، ذكرى مذبحة فض رابعة والنهضة، اليوم الذي افترشت فيه الدماء الطرقات حتى اصطبغت مصر باللون الأحمر القاني.

لكن المذبحة لم يرتكبها المنفذون يومها فقط، عناصر إعلامية وسياسية ودينية ساهمت في شيطنة المعتصمين، حتى جعلت المجتمع أكثر قبولًا للفتك بهؤلاء الغيلان التتار المحتلين لأرض رابعة والنهضة. الحقيقة إن تلك المذبحة تظافرت فيها جهود شيطانية مجتمعة جعلت وقوعها أكثر قبولًا وتبريرًا في الشارع المصري.

محمد البرادعي، ضمير الثورة الغائب، نائب رئيس الجمهورية إبان وقوع 7 مجازر كبرى مهدت لمذبحة رابعة، في مقدمتها: رمسيس الأولى والقائد إبراهيم وماسبيرو الثانية والمنيل ونصر الدين والمنصة والحرس، وقعت تلك المجازر كلها، والبرادعي ينتقل من لقاء مع أشتون إلى حوار مع صحيفة دولية؛ لتبرير شرعية القتل والإبادة.

بتاريخ 3 أغسطس 2013، أجرى البرادعي واحدًا من أهم حواراته التلفزيونية على الإطلاق، حين استضافه المذيع شريف عامر، علي فضائية الحياة، ساعتين كاملتين ونائب رئيس الجمهورية الدموية الجديدة يكشف كواليس المستقبل السعيد علي جثث الإسلاميين.

قال البرادعي، في حواره، إن الاعتصام في رابعة غير شرعي، وإن الأنباء عن وجود السلاح فيه أضحت أكثر من أن يتم تجاهلها، ورابعة الآن منطقة خارج سيطرة الدولة، ويجب علي الدولة العمل لعودة بسط نفوذها عليها من جديد.

وحين سأله المذيع: لكنهم يقولون إنك هددت بتقديم استقالتك حال فض الاعتصام بالقوة.. بادره البرادعي بكل ثقة وتأكيد: هذا لم يحصل، لا أحد يعترض على سيادة الدولة، لا أحد يقبل ترويع المواطنين، لم أقل يا شريف إنني سأتقدم باستقالتي حال فض اعتصام رابعة بالقوة أبدا! (1)

يبدو البرادعي إذن أحد المتهمين بالمسؤولية عن ارتكاب المذابح دون جدال، مسؤولية جنائية مباشرة عن حوادث القتل منذ توليه مهام منصبه السيادي، حتى استقالته الغريبة المشكوك في بواعثها المعلنة، ينبغي إذن أن يبقي اسم البرادعي بعيدًا عن أي محاولة لتطييب خاطر ضحايا مذبحة رابعة.

اتكلم عن رابعة

لكن حركة السادس من إبريل لم يقنعها هذا كله علي الإطلاق، لتعلن عن تدشين حملة "اتكلم عن رابعة"، رابعة التي كانوا يرفضون أن يرفعها المتظاهرون في مظاهرات جامعة القاهرة، لكنهم وصفوها أخيرا بالمذبحة، والمثير للسخرية، أن بيان الحملة تضمن شهادة البرادعي، الذي وصفوه بالدكتور، لا القاتل، على المذبحة النكراء!

لا يمكن تصور ذلك نوعًا من التضامن أبدًا، أن تتضامن مع القاتل والمقتول في آن واحد!، أن تستشهد على المعركة بشهادة أحد شاهري السلاح فيها، أن تستخف بمشاعر الضحايا فتضع صورة القاتل في خاطرهم إلى جوار ذويهم الذين لم تجف دماؤهم على وجه برادعيكم المغوار بعد!

لكن لا عجب في موقف حركة 6 إبريل هذا، إذ إنها هي الأخرى لم تسلم من جريمة شيطنة المعتصمين، ووصفهم بالتطرف والإرهاب وممارسة العنف، والاحتشاد إرهابًا للدولة وترويعًا للمواطنين.

ففي 21 يوليو 2013، وصفت الصفحة الرسمية للحركة المعتصمين في ميدان رابعة بأنهم "يمينيون متطرفون يقدمون (نبذة عن العنف)، في إشارة إلي مليونية "نبذ العنف" التي كان تحالف دعم الشرعية قد دعا إليها.. بل لقد ذهبت الحركة أبعد من ذلك، حين وصفت المعتصمين في البيان ذاته بأنهم مقودون من "تحالف اليمين الإسلامي المتطرف"(2).

بل إن أكثر الأصوات تطرفًا في حركة 6 إبريل، أمل أشرف، مسئولة العلاقات الخارجية بالحركة، والتي كانت على رأس وفد الحركة، مع أحمد ماهر، في لقائه مع كاثرين أشتون بعد أسابيع من انقلاب 30 يونيو، لطمأنة المجتمع الدولي الذي تمثله أشتون عن رضاء "الشباب الثوري" عن الواقع المصري الجديد.

أمل أشرف قالت لصحيفة الإندبندنت البريطانية، بلهجة صريحة، إنها تعتبر جماعة الإخوان منظمة "إرهابية"، وأن "الجيش يبذل قصارى جهده في محاولة لوقف عنف الجماعة"، وأن الحركة "لا يمكن أن تقبل أن يكون ذلك الاعتصام المسلح في بلادهم".(3)

هذا اللقاء تم بالتحديد يوم الاثنين 29 يوليو 2013.. أي بعد أقل من 24 ساعة علي مجزرة المنصة التي وقعت فجر يوم 27 يوليو من العام نفسه.. وقد وقعت مجزرة فض اعتصام رابعة بعد تلك التصريحات بأسبوعين ونصف.

ويوم المذبحة، من ينسى ضيف قناة المحور المصرية، الناشط الثوري السياسي، أحمد دومة، وهو يقول في وثوق إن ما تنشره فضائيات الإخوان محض كذب، وأن صور المحروقين في مستشفى ملفقة من سوريا والعراق، وأن الجيش انحاز لإرادة الشعب، وأن الشعب يريد إبادة الإخوان؟(4)

النهاية المتوقعة

وهكذا، مات صديقي أُبيّ المصري صاحب الـ 20 عامًا في مذابح الاعتصام، وأُعدم عبد الرحمن سيد صاحب الـ 19 عامًا في عرب شركس، واختفى أحمد الغزالي صاحب الـ 24 عاما في سجن العقرب بعد أن ظهر أخيرا كإرهابي عنيف في مقطع مصور في غرفة التحقيق.

لكن، وبعد أشهر قليلة، سيعود دومة، وسيعود قادة الحركة التي وصفت أُبيّ بالمتطرف، وعبد الرحمن بالإرهابي، والغزالي باليميني.. سيعودون غدًا يتصدرون المنابر ثوارًا أحرارًا، مناضلين بارعين، بينما سيصطف أمام قبر عبد الرحمن صديقين وفيين يبكيان رفقة صديق العمر الذي قتلوه مرتين، مرة بالرصاص ومرة باغتيال السيرة.

سيرث هؤلاء كفاح هؤلاء، وسيصعد أولئك على دماء من دفعوا الثمن الحقيقي، وسيعيش المتوارون أبطالًا، بينما الأبطال الحقيقيون تحت التراب. والأكثر سخرية، أن يتصدر شريك المذبحة لينعي شهداءها في حملة كيبوردية لا تعيد للمقهور حقًّا ولا للمظلوم أملًا، بل يقفز اسم القاتل شهادة التاريخ علي مذبحة القرن.

الحل

الحل الوحيد لتلك المعادلة الظالمة، هي غرس قيم احترام اختيارات الشهداء في وعي الإسلاميين، ألا يسمح شباب التيارات الإسلامية أن يخترقهم أصحاب الوجوه المتلونة من جديد، ألا يُلدغ الإسلاميون من الجحر نفسه كل عصر بنفس الطريقة وذات السذاجة.. وربما هذا هو موضوع التدوينة القادمة بإذن الله.
----------------
هوامش:
(1) حلقة البرادعي مع شريف عامر كاملة
(2) رابط المنشور التحريضي من صفحة الحركة الرسمية
(3) تصريحات أمل أشرف عن اعتصام رابعة
(4) اليوم المفتوح مع احمد دومة ومتابعة مباشرة لفض الاعتصام

شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.