معرض أبو زعبل الوهمي للكتاب! | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

معرض أبو زعبل الوهمي للكتاب!


أواخر يناير 2009، استيقظ عنبر المعتقلين السياسيين بسجن أبي زعبل- شديد الحراسة، على وقع مفاجأة لم تكن في الحسبان.. أصغر المعتقلين سنا، إسماعيل جاد، الذي أتم بالكاد 18 عاما، يقيم معرضا للكتاب في طرقة العنبر السياسي المزدحم تأسيا بالمعرض الكبير الذي كان مقاما في الوقت ذاته بدار المعارض بمدينة نصر، فيما يعرف سنويا بمعرض القاهرة الدولي للكتاب!

معرض أبو زعبل الوهمي للكتاب!

(1) 
أواخر يناير 2009، استيقظ عنبر المعتقلين السياسيين بسجن أبي زعبل- شديد الحراسة، على وقع مفاجأة لم تكن في الحسبان.. أصغر المعتقلين سنا، إسماعيل جاد، الذي أتم بالكاد 18 عاما، يقيم معرضا للكتاب في طرقة العنبر السياسي المزدحم تأسيا بالمعرض الكبير الذي كان مقاما في الوقت ذاته بدار المعارض بمدينة نصر، فيما يعرف سنويا بمعرض القاهرة الدولي للكتاب!

كان إسماعيل الصغير، الذي كان يحب أن ينادوه بـ"القمري"، شغوفا جدا بالكتب وطرائق طباعتها ونسخها، دائما ما كان يحكي عن حلمه حين يخرج للنور في أن يكون صاحب أكبر دار عربية للنشر والتوزيع، كان رفقاء زنزانته كلهم يعرفون عنه هذا الشغف، لكن إسماعيل كان حريصا على أن يزيد الأمر تأكيدا..

‏كان المعرض "وهميا" بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ إذ لم تكن الكتب المعروضة فيه سوى وريقات صغيرة عليها عناوين مضحكة ومحتوى ساخر.. يتذكر إسماعيل بعض أسماء ‏قائمة الكتب في معرضه الأول:

‏- رياض الأفراح في هلاويس المرواح
‏- الكنوز الثقال في فوائد الاعتقال
‏- الفكر الراسي في تجنب الاعتقال السياسي
‏- تحفة الملوس في أحلام المحبوس
‏- الأضواء والكشفات قبل الوقوع في الكلبشات
‏- ستر العاري بحلم الإفراج الوزاري
‏- الأماني والتراضي في الحصول على الانفرادي
‏- صيحة نذير في انتظار افراج الوزير
‏- الحبوب والاسبرين في التعامل مع المخبرين
‏- البرسيم والحشيش في فهم عقلية الشاويش
‏- تهديد المكابر بغلق العنابر
‏- البروق والومضات في فتح التريضات
‏- الدموع والحسرات في اعترفات أصحاب المبادرات
‏- الزلازل والبراكين في مشاكل التسكين
‏- سكب الدموع في النزول والرجوع
‏- تسلية الأخلة في التحقيقات المذلة بعد خلع السروال والفانلة
‏- بداية النهاية في ارتداء الغماية
‏- تثيب الأخلاء عند الصعق بالكهرباء
‏- تشويق الكئيب بالفرج القريب
‏- تسلية الحزين بفراخ التعيين
‏- التودد للأوغاد طريقك إلى الإرشاد
‏- تعليق الخباء من الألف إلى الياء
‏- الحيل المختارة لحجز الركن في الزيارة

الجميل في الأمر، أن المعتقلين تفاعلوا مع الشاب الصغير إسماعيل جدا، وتوافدوا على أركان معرضه الصغير، بينما هو يضحك من فرط جنون فكرته، لكنهم يلمحون، من طرف خفي، في عينيه بريق الفرحة وهو يخطو خطواته الأولى في حلمه الوثوق..

(2)

مارس 2011، يخرج إسماعيل من محبسه أخيرا، وهو ابن الـ 19 عاما، بعد سنتين من عمره ضاعا خلف القضبان، لتستقبله مصر الحنون أفضل استقبال، كعادتها..

يكتشف إسماعيل أن حلم إكمال دراسته النظامية بات صعبا للغاية، فقد صدر بحقه قرار بالفصل النهائي من مدرسته، مع توصية برفض قبول أوراقه في المدارس الأخرى.. ومن ثم يتجه إسماعيل إلى التعليم الخاص، لينتهي من ثانويته، قبل أن يلتحق بالجامعة الأمريكية دارسا للعلوم الشرعية واللغوية..

لكن إسماعيل الذي لم يعد صغيرا، ما نسي حلمه القديم، ليضع أخيرا حجر الأساس في دار "القمري" للنشر والتوزيع، ليدشن بذلك داره المتواضعة للطباعة ثم التوزيع عبر الإنترنت، بلا مقرات أرضية سوى حجرة نومه، التي لم تبخل عليه بمساحة منها لتكون مخزنه ومكتبه ومستودعه الخاص..

(3)

أكتوبر 2013، تضحك الدنيا لإسماعيل أخيرا، هناك في قلب القاهرة، بجوار أبواب الجامع الأزهر، ترتفع في شموخ لافتة "دار القمري للنشر والتوزيع"، ليدخل إسماعيل بمقر داره الجديد حلبة سباق الناشرين الكبار، ولتكن خطوته التالية هي الولوج إلى أسوار معرض الكتاب..

(4)

يناير 2014، دار القمري في معرض القاهرة الدولي للكتاب، لا أحد يمكنه أن يتخيل كيف كان قلب إسماعيل يتراقص وهو يرى أخيرا لافتة داره تجاور عمالقة النشر في المعرض الأكبر للكتاب بالشرق الأوسط..

ومع احتشاد الزائرين على قوائم كتبه الجادة، يتذكر احتشاد رفقاء الزنزانة على وريقاته الصغيرة بجوار حمام السجن الكبير.. لكن خيالات إسماعيل السعيدة لم تدم طويلا.. ربما لم ينتبه الشاب إلى أن مصر الحنون في نسختها الجديدة لن تحرمه من حنانها المعتاد!

وهكذا، بلا مقدمات، تصادر قوات الأمن مقر الدار بالمعرض، وتغلقه نهائيا.. ولولا خصوصية المكان لواجه إسماعيل اعتقالا جديدا من الضابط الضخم الذي لم يقدم لإسماعيل سببا واحدا لإغلاق داره، سوى أنها "تعليمات عليا" وحسب..

أصبحت دار القمري بذلك هي أول دار نشر في تاريخ معرض الكتاب تواجه الإغلاق والمصادرة بقرار أمني صريح بعد انطلاق المعرض(1).. وعاد حلم إسماعيل أدراجه ليستيقظ أخيرا على كابوس إغلاق مقره الصغير بجوار الأزهر أيضا!

(5)

يغيب إسماعيل في بيته شهورا يحاول استيعاب ما جرى، يبحث داخله عن مبررات منطقية لما حدث معه، كيف يكون على قمة حلمه القديم، وينهار فجأة كل شيئ على رأسه!؟ كيف بعد أن كان يمل احتساب أرباحه، يجد نفسه فجأة مديونا لأصحاب الكتب التي لم يبع منها نسخة واحدة منذ صادرتها قوات الأمن!؟

يقرر إسماعيل مغادرة البلاد، ربما يجد خارج وطنه قلب وطن أكثر رحمة من هذا السجن الكبير.. يسافر في بلاد الله، دبي، الدوحة، اسطنبول، أبو ظبي..

يعود من جديد إلى الطباعة ثم التوزيع عبر الإنترنت مثلما بدأ مشواره.. تضحك الدنيا من جديد للشاب، يودع الجنيه المصري ويبدأ رحلة الدولار والريال والدرهم..

يشارك إسماعيل في معرض الدوحة للكتاب، ثم أبو ظبي، ثم تونس غيابيا.. يتوسع أكثر وأكثر في مشاريع طباعية وشراكة عربية ممتدة.. لكن شعور الانتصار الوحيد الذي كان يداهمه هو أن يعود منتصرا إلى المعرض الكبير الذي طرده مهزوما قبل عامين..

يقرر إسماعيل أخيرا أن يشارك من جديد في معرض القاهرة الدولي للكتاب في نسخته الحالية 2016، لم يعد إسماعيل مجرد ناشر صغير، إنه يعود هذه المرة شريكا بداره في مشروع كبير يضم خمسة من دور النشر الكبيرة والصغيرة.. لا مجال للحديث عن مصادرة جديدة لداره إذن..

(6)

أواخر نوفمبر 2015، يصل إسماعيل إلى مطار القاهرة ليبدأ رحلة الاستعدادات لمعرض القاهرة الذي ينطلق بعد شهرين.. لكن مصر تصر دائما على مفاجأته بقلب الأم الكبير..

وبلا أسباب، يوقف أمن المطار إسماعيل، رغم أنه سبق ودخل إلي مصر مرتين خلال العام نفسه من المطار ذاته، لم يكن إسماعيل مطلوبا ولا مطاردا على ذمة أية قضايا..

يختفى إسماعيل قسريا في مقرات الأمن أسبوعين، يظهر بعدها ممزق الثياب مرقع الوجه فاقدا القدرة على تحريك يديه، ليواجه تهمة سخيفة.. الانضمام إلى جماعة محظورة!

يقبع إسماعيل حاليا في معتقل طرة الكبير، لا يعرف سببا واحدا لأن تستقبله الدنيا كلها استقبال الفاتحين، بينما تقف له بلده بالمرصاد.. يواجه كل أسبوعين عرضا على النيابة، يسأل زواره في كل مرة عن أخبار معرض الكتاب، كان إسماعيل يعيش على وقع أن يخرج قبل بدايته، فيدرك المشاركة فيه، لكنه بدأ أخيرا يستوعب أن الوقت قد مضى..

(7)

ينطلق معرض الكتاب هذا العام محشوا بملايين الزوار وآلاف الكتب ومئات دور النشر، لكن إسماعيل قرر رغم ذلك أن يكمل مشواره، وأعلنت داره المشاركة في المعرض دون صاحبها وبناء علي طلبه..

يعرف إسماعيل أن داره قد تواجه الإغلاق مرة أخرى، لكنه لم يعد لديه ما يخسره، سيخوض المغامرة على ما فيها من مجازفة.. ورغم أنه سيكون فيها الغائب جسدا الحاضر قلبا..

لا أعرف كيف ستنتهي رحلة إسماعيل هذا العام، ربما لن يتيسر لي زيارة المعرض هذا العام أيضا، لكن إن كنت عزيزي القارئ ممن أسعدهم القدر بزيارته، ثم وجدت نفسك فجأة في مواجة زحام على دار إسماعيل الغائب، إن أدركتها قبل إغلاقها المتوقع، فالتقط صورة لها.. علها تكون حافزا لإسماعيل حين يبدأ رحلة تأسيسه الثالثة بعدما يخرج من جديد للنور.. 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:




شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.