الواقفون على الماء | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

الواقفون على الماء


كان كل شيء في مصر بعد الثورة يبدو مثاليا للغاية، كان الجميع يحرص على أن يقوم بدوره في نهضة بلده، ويأبى أن يستصغر أي خلل في جسد الوطن، ويسعى ليوصلها إلى الكمال الكامل.

الواقفون على الماء

تعرف كيف يموت الشغف ويبهت الحلم وينهار الطموح؟ دعني أحكي لك حكايا من مصر.

(1)
في مارس من العام 2011، بعد أسابيع من الثورة المصرية، نظم عدد من طلاب كلية دار العلوم بجامعة القاهرة حملة ميدانية اسمها همزة وصل، بهدف تصحيح الأخطاء الإملائية والنحوية فوق لافتات المحال وأمكنة الانتظار ومرافق الدولة.. كنتُ واحدا من القائمين على تلك الحملة. 
ترى الأمر فراغية وتسلط لا داعي له؟ الحقيقة أن طلاب دار العلوم لغويون، اللغة هي شغلهم الشاغل، لذا فهم براء من شبهة الفراغ.. ولا يهدفون التعنت والتسلط، فعملهم الأشهر هو التصحيح اللغوي.. باختصار، لقد كانوا يقومون بواجبهم.

كان كل شيء في مصر بعد الثورة يبدو مثاليا للغاية، كان الجميع يحرص على أن يقوم بدوره في نهضة بلده، ويأبى أن يستصغر أي خلل في جسد الوطن، ويسعى ليوصلها إلى الكمال الكامل.

اليوم، أربعة من أعضاء هذا المشروع مطاردون خارج البلاد، وواحد سبق اعتقاله، وآخر تلقى استدعاءً من أمن الدولة قبل أسابيع.

(2)
قبل يوليو 2013 بأسابيع، كنا نطوِّر بوابة إخبارية في مشروع إعلامي شامل لم يُكتب له الانطلاق، كنتُ من بين القائمين على تصميم واجهته الرئيسة، وكنا نضع لمساتها الأخيرة حين وقع الانقلاب، وتوقف المشروع وقتا، قبل أن يحاول أصحابه في 2015 المحاولة الأخيرة لإنقاذه. 
حين اجتمعنا من جديد لنعيد إحياء المشروع، استعرضنا الواجهة التي سبق وأنجزناها، لنحذف الأبواب التي لم تعد مهمة، ونستبدلها بأخرى ذات أولوية متوافقة مع الواقع الجديد الذي نحياه.. فكانت المحصلة أننا حذفنا باب (تنمية وتطوير) ووضعنا بدلا عنه باب (سجون ومعتقلات). 
يومها، تبادلنا النظرات صامتين، كان الواقع أوسع من أن تحصره الكلمات، وأبلغ تعبيرا من كل تعبير.. لا مكان في مصر الجديدة للتطوير والتنمية، لا جديد سوى المعتقلات والسجون.

(3)
في يوليو عام 2012  قررت الشابة زينب المهدي تدشين كيان لتنمية المجتمع النسوي وزيادة الوعي بدور المرأة المصرية في بناء المجتمع.. أو كما خطته زينب بنفسها في تعريفها (المساعدة في بناء مجتمع مدني قوي وذلك من خلال العمل المجتنعي في منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الخيرية والمشاركة في مراقبة الانتخابات البرالمانية والرئاسية التي تبني تبني جزءا كبيرا من المجتمع المدني والأنشطة النسوية التي تنهض بالمرأة المصرية على المستوى السياسي والإنساني).

في نوفمبر من العام 2014.. انتحرت زينب المهدي شنقنا في غرفتها بعد أن تركت رسالتها الأخيرة (تعبت .. استهلكت .. ومفيش فايدة .. كلهم ولاد كلب .. وإحنا بنفحت في ماية .. مافيش قانون خالص هيجيب حق حد .. بس إحنا بنعمل اللي علينا .. أهه كلمة حق نقدر بيها نبص لوشوشنا في المراية من غير ما نتف عليها .. مفيش عدل .. وأنا مدركة ده .. ومفيش أي نصر جاي .. بس بنضحك ع نفسنا عشان نعرف نعيش).

(4)
في أكتوبر من العام 2007.. بدأ الشاب أنس القاضي مشروع حياته الصغير لتأسيس شركة سياحية محدودة على مساحة "دكانه" الصغير بمساحة 28 مترا، على الطوب الأحمر.

كان الشاب هو نفسه مديرها وعاملها وموزعها ومندوبها، أو كما يقول هو (انا اللى بعمل الرحلات وانا اللى ببيعها وانا اللى بطلع بيها وانا اللى بعمل حسابتها وانا اللى بفتح الشركه الصبح وارش ميه وانا اللى بعمل الشاى والقهوه وانا المدير برضو وانا اللى بدى لنفسى المرتب وانا اللى بخصم لنفسى لو اتأخرت).

الثوة المصرية رفعت سقف طموحات جيلنا كله، لم يعد الدكان الصغير يليق بحلم أنس، فتوسع فيه قدر توسِّع أحلامه.. (وسنه ورا سنه اخدت المحل اللى جنبه و كسرت بنفسى الحيطه اللى بينهم.. ومكتب الرحلات بقى فرع او توكيل لشركه سياحه فى القاهره وعدد الموظفين بقى حوالى ٦ افراد وبعدين سنه ورا سنه اخدت الشقه اللى وراه وفتحتهم على بعض والمكان ده  كبر وبقى ١٠٠ متر او اكتر.. والفرع الصغير كبر وبقى شركه مستقله كبيره..وشاركت ناس محترمين جدا وكنا اصحاب فعلا زى ابو تريكه وناس تانيه).

نجح مشروع أنس بقدر نجاح الثورة، نجاح مؤقت.. (بقى عدد الموظفين كبير جدا  وكنا اصحاب برضو.. ولأنى بقدر جدا قيمه الصحوبيه خليت اسمها اصحاب للسياحه وبقى ليها فروع ومندوبين كتير فى اكتر من محافظه من مطروح لحد الصعيد.. وحجم الشغل بقى ضخم وحجم الاعمال بقى اضخم والانتشار بقى سريع والعلاقات بقيت اوسع  والحلم اللى اشتغلت عليه سنين بيتحقق قدام عينى والشركه فى وقت صغير جدا بقيت حاله .. حاله جميله من الصحوبيه والطموح والنجاح واصحاب تورز بقيت من اشهر الشركات فى مصر بفضل ربنا وشركاء جدعان وفريق عمل شغوف بالنجاح).

وفجأة.. (انقلاب.. وبعد شويه اعتقلت واضطريت اتخارج من الشركه وبعدين تحفظ ظالم من الحكومه على الشركه واتهامات ليها وليه وللشركاء بالارهاب وبعدين  لجنه من الحكومه لأداره الشركه وأصولها ثم اهمال ثم سرقه ثم انهيار.....انهيار..انهيار لكل حاجه لحد ما وصلنا ليافطة على باب الشركة مكتوب عليها (الموقع للبيع).. واللى خرجت من السجن بعد سنتين لقيتها ولقيت الوضع ده..كل حاجه راحت واتاخدت حتى المكان ده بيتباع اهه وانا عاجز وواقف ساكت مش عارف اعمل اى حاجه...شعور مميت ومؤلم الى ابعد مدى والله).

(5)

أجلس الآن أتفكر في ما وصل إليه هذا الشغف من بهوت، وكيف صارت أقصى أمانينا أن نحصل على هدنة من أخبار القتل والتعذيب والإرهاب، بعد أن كانت مخيلاتنا لا تستدعي سوى نسائم البناء والتقدم والتطور؟

كيف غدونا هكذا؟ ومن المستفيد من قتل شغفنا وطموحنا؟ وأي بلد هذا الذي يخسر حاضره بهذا العنف والتحدى؟ وأي مستقبل ينتظر جيل يلاحق خسائره؟ وكيف وجدنا أنفسنا فجأة، واقفين على ماء!؟

شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.