مقود السيارة جهة اليمين! | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

مقود السيارة جهة اليمين!


مشاهد الغربة تضرب لنا يقينية المعرفة التي نمتلكها، وتهز وثوق الإدراك، وتضعنا أمام حقيقة الصغر أمام تفاصيل الحياة، وتضربنا في عقر الثوابت والمعتقدات.

مقود السيارة جهة اليمين!

(1)
حين وصلتُ السعودية، زارني في اليوم الأول صديق الجامعة الأقرب.. يومها أهداني "قارورة ماء" كبيرة.. في الحقيقة، بدت لي هديته بخسة للغاية.. في مصر والسودان، الماء في كل مكان، لا قيمة في الإهداء به، بل إنه يبدو في بعض الأحيان نوعا من قلة الذوق، حتى إن أهل القاهرة يسخرون من المضيف البخيل، فيقولون: "ماجابلناش حتى كوباية مية".

قبل انتهاء الليلة الأولى، عرفتُ أن أهل السعودية لا يشربون الماء من الصنابير، وأن قارورة الماء التي أحضرها الصديق، غالية القيمة عالية الأهمية، وأنه حين أحضرها قد رفع عني عنت العطش وتيه البحث عن سقيا.. وأن تلك القارورة كانت أهم وأعظم من كل تلك العصائر والمعلبات التي أحضرتها أو حصلت عليه طول اليوم.

(2)
بعد أيام، زارني صديق يسكن منطقة بالرياض معروفة بمصرية أغلب ساكنيها، فالسعوديون لا يدخلونها إلا قليلا، بينما أسكن أنا ضاحية مأهولة بالمواطنين السعوديين.

سألني الصديق: ما رأيك بالمكان؟ فقلت مازحا: "جميل، وماليان سعوديين عالآخر".. كانت تلك مزحة!.. لكن صديقي لم يفهمها.. وراح يتحدث بجدية تامة: "فعلا.. المنطقة هنا ماليانة سعوديين".

صديقي هذا قبل أن يسافر، كان خفيف الظل للغاية.. ردة فعله الجادة وغياب فهمه للمزحة استوقفني جدا.. خيِّل إليّ أن السعودية أفقدته خفة ظله.. لكن حين زرت منطقة سكنه بعد أيام، عرفت أنه كان محقا، وأن ما حسبتها مزحة كانت في الحقيقة إقرارا لواقع يعيشه، وأن صديقي حسبني أمتلك من النباهة ما جعلني ألتقط تلك الملاحظة المستترة في أسبوعي الأول.. بينما لم يكن في حديثي ما يدعو للمزاح أبدا!

(3)
في ماليزيا، يقودون السيارة من جهة اليمين، بينما يجلس الراكب في ناحية اليسار.. ذلك أمر لم أكن أعرف عنه شيئا حين زرت العاصمة كوالالامبور.

ليلة السفر، كنتُ أهاتف صديق حيث سينتظرني على أبواب المطار.. دار حديث طويل حول الحياة في ماليزيا، تحدثنا عن تأجير السيارات واستخراج رخصة القيادة.. لم يخبرني صديقي عن حكاية يمينية المقود.

فور وصولي المطار، فتح لي صديقي باب سيارته من جهة اليسار، ظننتُه يريدني أن أقود السيارة، فابديت امتناعي جدا، وأخبرته أنني لا أريد القيادة.. واتجهت فورا للجهة اليمنى، حيث المقود الذي لا أراه.

وقف صديقي متسمرا أمام جرأة مزاحي الثقيل، لكني حين فتحت الباب، انتقل التسمر إليّ وأنا أهتف: ما الذي جاء بمقود السيارة هنا!؟

(4)
لم أنل فرصة ركوب الطائرة في حياتي سوى مرة، قبل أيام، في الطريق إلى ماليزيا.. وفي الطائرة، كنت أرتجف قلقا وأنا أتذكر المحيط الهائل الذي سنعبر فوقه بعد دقائق.. للطائرة رهبة خاصة، سيما إذا كنت تركبها للمرة الأولى.

في الطائرة، يمكنك أن ترصد عالما مستقلا، كوكب داخل كوكب، شاب يردد آيات الخشوع، وآخر يترقب في صمت، ومضيفة طيران تمرر قائمة المطعومات والمشروبات، وفي صدرها: مشروبات روحية (الوسكي والكونياك والفودكا والجين)، الفتاة إلى جواري طلبت واحدة منها، هكذا فهمت من إشارتها فوق القائمة ولون المشروب الذي وصلها.

كلنا على نفس الرحلة، كلنا سيعيش أو يموت معا، مصير واحد ينتظر الجميع.. يبدو أن الحياة أوسع كثيرا من إداركنا، وأن قبولنا للآخرين أمر خارج دائرة الاختيار، وأن الأرض لا يسعها إلا أن تحمل الجميع.

(5)
تلك مشاهد في الغربة تكسر لنا يقينية المعرفة التي نمتلكها، وتهز وثوق الإدراك، وتضعنا أمام حقيقة الصغر أمام تفاصيل الحياة، وتضربنا في عقر الثوابت والمعتقدات.

لذا، تخفف قليلا من وهم المعرفة، لا يزال العالم أكبر من إدراكك، ولا تزال أنت، برغم ما تتوهم امتلاكه، عاجزا عن أن تفهم الكون الظاهر حين لا تصل أقدامك إليه، فهيهات أن تفهم يوما ما وراء النواظر.
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.