الشامتون في موت عاكف | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

الشامتون في موت عاكف


انتهت قصة عاكف على النحو الذي ما كان ينبغي أن تنتهي إلا به، مات الرجل بعد صراع دامٍ مع المرض والقهر والسجن، تاركاً أيقونة جديدة للتضحية والفداء، وكاشفاً في الوقت نفسه عن سواد قلوب بعض الناس.

الشامتون في موت عاكف


لا أحد يعرف -على وجه الدقة- سر العلاقة بين شارع قصر العيني ونهاية قيادات جماعة الإخوان، ففي الشارع نفسه قبل نحو ستين عاماً، تلقى مؤسس الجماعة رصاصات الاغتيال التي أودت بحياته في المشفى، وهو الشارع نفسه الذي سيلفظ في أحد مشافيه الدكتور محمد مهدي عاكف أنفاسه الأخيرة أيضاً.

ولأن بعض الجثث تبقى تصدر الضجيج الذي يرعب الأنظمة حتى وهي مسجاة على خشبة الدفن، فقد تكرر المشهد ذاته بعد ستين عاماً، حيث النساء يدفنّ الرجلين في جنح الظلام، ودون السماح لأفراد عائلتهما الكبيرتين بالحضور والتقاط نظرة الوداع.

ليس غريباً هذا كله على نظام عسكري، لكن الغريب حقاً هو ردود أفعال بعض من نخبة المجتمع المصري الذين جمعتهم بالرجل حياة وعلاقات وإخباريات.. ليس أولهم محمد حبيب، نائب الرجل في مكتب الإرشاد، ولا عمرو أديب، الإعلامي "الصديق" للفقيد الراحل.

كان محمد حبيب أول من سارع بالتعليق على وفاة صديق صباه، مهدي عاكف، بعد دقائق فقط من إعلان وفاته، ليمطره بل ما استطاع استدعاءه من كلمات الهجوم والشماتة.

حبيب قال في تصريح لصحيفة مصرية مؤيدة للنظام إن "عاكف" لم يكن عند حسن الظن خلال قيادته للجماعة من حيث القدرة والكفاءة والعلم والفقه، ولم يكن أهلاً للمسؤولية، وإن الأخطاء التي ارتكبها يتحملها الجميع الآن. وأردف أن عاكف اتسم بشدة الانفعال وانفلات اللسان، ولم يك يستطيع السيطرة على انفعالاته، ولاحظ الجميع انعدام الحكمة في الإدارة بشكل كبير لديه. وتابع: "كان عضواً في النظام الخاص للجماعة وهذا النظام هو من أسس للعنف".

يبدو إذن أن عاكف كان خطيراً للغاية، وصاحب تحولات كبيرة في منهجية الجماعة.. إلا أن حبيب عاد وناقض نفسه حين صرح للجريدة بأن: "الرجل لم يكن له أي أثر يذكر في القيادة، وأعتقد أنه لن يكون لوفاته أثر أيضاً".

هذا التخبط ليس غريباً، بل إنه يكشف أن حبيب كان يبحث عن أي نقيصة يلصقها بالرجل تحت أي سياق، فعاكف كما يراه حبيب خطير جداً وقاد الجماعة للعنف المسلح، لكنه في الوقت ذاته لم يكن له أي أثر يذكر!

على ذكر العنف المسلح، يعرف الجميع أن عاكف لم يعرف عنه تبني منهجيات العنف ضد الدولة، وله مقطع مصور قبل اعتقاله بأيام يحذر من الانجرار إلى العنف.. يعرف حبيب هذا جيداً عن صديقه القديم، ويعرف أيضاً أن عاكف لم يحمل السلاح إلا ضد الاحتلال، وأن قيادته للعمل المسلح لم تكن إلا في مواجهة علم الإنكليز.

انتكاسة فطرة طاغية لحقت بحبيب وهو يقول تلك الكلمات، لكنه أصر على أن يختمها خير ختام حين خلع عن عاكف اشتباه الإهمال الأمني، فأكد أن الفقيد "من عمر حسني مبارك فقد ولد عام 1928، وتدهور حالته الصحية أمر طبيعي جداً ولا توجد شائبة إهمال لحالته الصحية".

لا بأس، هذا رجل يمكن فهم نفسيته بعدما ارتمى في أحضان النظام العسكري، لكن موقف الإعلامي عمرو أديب الذي لطالما تفاخر حتى وقت قريب بأن عاكف كان "صديقاً" بشكل شخصي، أبدى هو الآخر شماتة منقطعة النظير.

ففي برنامجه اليومي، شن أديب هجوماً على عاكف الذي وصفه بأنه كان يمتلك من "العنجهية" الشيء الكثير، وأكد أنه حين التقاه في مقر مكتب الإرشاد، سأله عن بيل جيتس، ومايكروسوفت، إلا أن عاكف أخبره بكل حدة إن لديه مساعدين قادرين على إحضار أي شخص له مهما كان حجمه وقدره.

وفي تعبيرات وجهه الظاهرة تماماً، قال أديب إن الإخوان يحبون الكربلائيات، وإنهم كانوا يطالبون بالإفراج الصحي عن مرشدهم، بينما لم يفكروا في الإفراج عن مبارك ورموز نظامه.. مبارك الذي يسكن الآن بقصر محاط بحراسات خاصة، ويعرف أديب هذا جيداً.

لكن هذا كله في مكان، وتعليق الاقتصادي المصري أشرف السعد على خبر وفاته في مكان آخر، فالرجل نقل تصريحات عن "قيادات إخوانية" قال إنه أكد أن عاكف لم يمت، وإنه يقبع الآن بزنزانته في محبسه!

ولأن حزب النور لا يمكنه أن يفوت حدثاً مثل هذا، فقد سارعت إحدى صفحاتهم البارزة "أهل السنة والجماعة" بنقل قصة الحسن بن صافي بن بزدن التركي، مذكرة أنه حين مات، فرح أهل السنة بموته فرحاً شديداً وأظهروا الشكر لله فلا تجد أحداً منهم إلا يحمد الله.. تاركة تعليقها: وفاة مرشد الإخوان مهدي عاكف.

هذا الموقف، سرعان ما ترجمه نائب حزب النور أحمد الشريف، حين اكتفى بالتعليق على خبر وفاة عاكف باستدعاء قصة عبد العزيز بن أبي رواد، الذي رفض سفيان الثوري الصلاة عليه، قائلاً: "أردت أن أُري الناس أنه مات على بدعة".

أحمد الشريف نفسه شارك في جنازة سامح سيف اليزل العسكرية قائداً لوفد حزب النور، وكتب الشريف بياناً شهيراً باسم الدعوة السلفية في تعزية الجيش في وفاة العميد نجوى النجار، ونقل تعازي حزب النور في الرائد عماد الركايبي رئيس مباحث تنفيذ الأحكام بقسم شرطة العطارين.

ولمّا مات محمد حسنين هيكل كتب نادر بكّار -المتحدث الرسمي حينها باسم حزب النور- مقالاً بعنوان: "فليرحم الله الأستاذ.. وليبعث إنصافنا". وافتتح مقاله قائلاً: "صعب جداً أن يكتب مثلي عن أستاذ بحجم محمد حسنين هيكل رحمه الله تعليقاً على وفاته"، واختتمه قائلاً: "سأظل مختلفاً معك مستمتعاً بقراءتك منتقداً منطقك متفهماً دوافعك.. ليرحمك الله يا أستاذ".

هل يمكن أن ننسى الداعشيين؟ وهل يمكن أن يفوتوا الفرصة دون الإبداع في إظهار غلظة قلوبهم؟ كلا بالطبع. فسرعان ما كتب أحد شبابهم أصحاب الانتشار في تويتر: "كان إماماً في الخنوع، أسس لمذهب التضحية بالنفس بلا سبب ولا غاية ولا مقاومة، حتى مات بلا ذكر منسياً في السجن، وفي إمرته بضعة ملايين لو قرص كل منهم جدار السجن قرصة، لخرج عزيزاً كريماً، إلا أن من عاش على شيء مات عليه، وما ربك بظلام للعبيد".

على أية حال، انتهت قصة عاكف على النحو الذي ما كان ينبغي أن تنتهي إلا به، مات الرجل بعد صراع دامٍ مع المرض والقهر والسجن، تاركاً أيقونة جديدة للتضحية والفداء، وكاشفاً في الوقت نفسه عن سواد قلوب بعض الناس.
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.