التضحية بالأحلام!
"الصمت هو المعقل الأخير، لا يمكنك أن تسلبنا حقنا"
- المغني الإيراني داريوش إقبالي
الأسبوع الماضي، انهارت أحلام شاب عشريني بعدما كان على بُعدِ أمتار من تحقيقها على أمثل وجه ممكن، لسبب يدعو للتأمل جدًا. خسر المصارع الإيراني الشاب علي رضا كريمي مباراته الفاصلة أمام نظيره الروسي أليخان زابريالوف، حين نما إلى علم مدربه فوز خصمه الإسرائيلي يوري كالاشنيكوف في المباراة النظيرة لتحديد لاعبي المباراة النهائية. طلب المدرب الإيراني من كريمي أن يخسر المباراة عمدا، حتى لا يضطر لاحقا للانسحاب أمام كالاشنيكوف أو يعرّض نفسه وبلاده للعقوبات.
تصريحات اللاعب حيال الواقعة كانت مأساوية للغاية، لم يستطع -رغم محاولاته الواضحة- إخفاء ذلك الصراع النفسي المشتعل داخله. قال كريمي، في أول تصريح له بعد المباراة: "لقد تدربت بجدية شديدة على مدار شهور طويلة، كنت واثقًا من قدرتي على المنافسة على لقب البطولة والفوز أخيرا بلقب عالمي، ولكن انتهت رحلتي حين جاءت تعليمات مدربي بالانسحاب.. لقد كانت كلماته مثل دلو الماء البارد على كل أحلامي".
شغلتني تلك الواقعة جدا، ولامستْ عندي موقعا نفسيا مغايرا لما رصدته منصات الأخبار الجافة. كيف كانت مشاعر كريمي وهو يقف متسمرا أمام خصمه زابريالوف، وعينه تتعلق بشاشة النتيجة وهي تنزلق من 3-0 له، إلى 3-14 لصالح زابريالوف؟ كم بلغت دقات قلبه حين أقدم حكم المباراة على رفع يد خصمه معلنا فوزه بالمباراة، بينما هو -والحكم والخصم- يعرفون أنه هو الأحق بهذا المشهد؟ كيف مرت على ذاكرته تلك الثواني وهو يتذكر الشهور التي قضاها في التدرب والتجهز لتلك اللحظة الفارقة في عمره وطموحه؟
وسائل الإعلام الإيرانية المؤيدة لدولة الفقيه، احتفت بموقف اللاعب والمدرب، دون أن تشير إلى احتمالية أن يكون اللاعب مجبرا، كما فهم آلاف المغردين الإيرانيين على مواقع التواصل.. يقول المغردون إن الدولة ابتلعت حلم كريمي، وأنه أحلامه قد اغتيلت مرتين، مرة حين منعوه من الفوز في المباراة الفاصلة، ومرة حين فرضوا عليه موقف "بطولة" ربما لا يكون هو نفسه يوصفها بهذا التوصيف.
في النهاية، وسواء كان مجبرا أو مختارا، فقد ضحى كريمي بحلم حياته، مفتديا ما قد تعتبره بلاده ميثاقا شرفيا. ضحى كريمي بالحلم الخاص من أجل المبدأ العام، واستبدل الشرف الجماهيري بالمجد الرياضي.. فهل سيُرضي هذا شغف كريمي؟ هل يجد في تلك الشعارات تعويضا مناسبا لخسارته الشخصية الفادحة؟ هل كان يملك خيار رفض الانسحاب؟ يخبرنا تاريخ بلاده الرباضي أنه في الشهر الماضي، خاطر لاعب شطرنج إيراني في سن المراهقة، يدعي برنا درخشاني، باللعب ضد خصم إسرائيلي في إحدى بطولات اللعبة، لينتهي به المقام في إنجلترا ضمن اللاجئين.
ذلك الصراع الذي عاشه كريمي في دقائق، يعيشه أبناء هذا الجيل كل لحظة منذ بدلت الأحداث السياسية أحوال البلاد وطموحات العباد، يجد الشباب العربي نفسه مجبرا كل يوم على الاختيار ما بين أحلامه ومبادئه.. كل المطاردين، والمحبوسين، والمكبوتين في مصر كان بإمكانهم أن يتحصلوا على مواقع ترضي شغفهم لو امتلكوا الشجاعة لانتهاك مبادئهم ومبادئ من حولهم.
تمنع مبادئ الشرف والأخلاق آلاف الشباب من أن يصلوا إلى أحلامهم، أحيانا لا تكون تلك المبادئ من وضعهم أو حتى اختيارهم، وأحيانا قد لا يكونون مؤمنين بها من الأساس. والبعض يقاوم، لكن ليس لأنه قوي، وإنما لأنه لا يجد طريقا للاستسلام، أو لم يمتلك يوما الخيار لفعل ذلك، قطعة شطرنج يتم تحريكها، مجبرون، إما من عادات مجتمع أو تقاليد كيان أو حتى ثوابت أخلاق وإيمان داخلي دفين.
في النهاية، فإن الملايين من الشباب العربي يضطرون للدخول إلى حروب ليست من اختيارهم، ويحملون أسلحة لا يفقهون استخدامها، ويدافعون عن ثغرات لا يفهمون ما أهمية حمايتها أو فائدة التضحية في سبيلها.. كريمي -وأمثال كريمي- يحتاج لأن يعرف أن ثمة هزائم تقويك، وانكسارات تدعوك للمقاومة، وصدمات تحملك على التحدي، وخذلان يزرع فيك البقاء، وموت يدفعك إلى العودة من جديد.
شاهد أيضا