مصانع المعارضة المُدجنة
لم يخبرنا مخرج الكارتون أن جيري هو الذي أشعل فتيل المواجهة يوم استوطن المنزل، وأن كل محاولات القط توم لا تخرج عن إطار المقاومة المشروعة. لم يكن توم يريد من جيري إلا أن يرحل عن المنزل، هذا دوره الذي يسعي في تأديته بإخلاص وضمير.. وجيري، مهما افتعل الخيرية وتظاهر بالرقة والفتور، سيبقي المتسلل المحتل.. لا بأس، هذا كارتون، صاحبه لا يقصد كل هذا، لكنه محض مثال لما يمكن أن يصنعه "الزنّ الإعلامي" في اعتقاداتك وقناعاتك، بينما أنت مسكين، لا تنتبه إلى ما يقدمه لك في ثنايا الدراما الماتعة.
قبل أسابيع، جلس صاحبنا المصري المهاجر إلى واشنطن وهو يشاهد باهتمام مباراة كرة القدم الأمريكية، قبل أن تلسعه درجة الحرارة التي ارتفعت فجأة في حجرته، ليكتشف بعدها أن التكييف المعلق فوقه على الحائط قد توقف عن العمل بعد عطل مفاجئ. يستند صاحبنا بظهره إلى مقعده الوثير، وهو يتأفف من تلك الحرارة التي جعلته يتذكر فجأة ذلك "الأوتوبيس" الذي كان ينطلق به من ميدان الجيزة إلى الجامعة قبل 10 أعوام حين كان في مصر.. آه، صحيح.. مصر!
يدفع الحنين صاحبنا إلى أن يفتح أخيرا "جروب المصريين"، ليري الحروف العربية التي كاد أن ينسى شكلها منذ سافر إلى أمريكا، قبل أن يكتب منشورا عميقا يتناول الشأن المصري.. "معكم عبد الرحمن، مصري أعيش في أمريكا، دعوني أحدثكم عن "العناد الإخواني" في مواجهة حملة تمرد الشعبية الحرة المستقلة الثورية التي خرجت بإرادة شعبية هادرة، لا بأموال الإمارات ولا تخطيط المخابرات".
وهكذا انصب صاحبنا في سرد مشاهد "العناد الإخواني" أمام جبهة الإنقاذ الوطنية.. يبدو عبد الرحمن متأثرا للغاية بالحالة الإخوانية، ربما لأنها آخر ما يتذكره من المشهد المصري قبل سفره الطويل. من الصعب أن تجد في رسالة صاحبنا إدانة لأستاذه البرادعي، والنائب الأول للرئيس المؤمن عدلي منصور، ضمير الثورة الذي كان يلقي محاضرة في حشد أوروبي يقنعهم بـ"ثورة 30 يونيو" حين كانت جثث 200 شاب تواري الثرى في مجزرة الحرس والمنصة.
يكتفي صاحبنا بكلمات إدانة عامة نحو "كلنا مخطئون"، "دعونا لا نناقش الماضي إلا إذا كنا سنشتم الإسلاميين".. وغيرها من الشعارات المنافقة التي تعلمها من تدوينات أستاذه النوبلي على تويتر. قبل أن يصل مندوب شركة التكييف، تعود الحرارة إلى سابق عهدها، فيمتد عبد الرحمن من جديد على مقعده الوثير، ليتابع الشوط الرابع والأخير من مباراة كرة القدم الأمريكية.
وغير بعيد.. تتصفح سارة حساب الفيس بوك، وهي تنتظر أخيها الأصغر، الذي يوشك أن يخرج من المسيرة التي يقود فيها الهتاف، لينطلق إلى أخته سارة التي تقف متأففة أمام سجن القناطر، كي يزورا معا أختهم المعتقلة في السجن العتيق. تطالع سارة رسالة عبد الرحمن، لكنها تمل من طولها المعيب، سارة مشغولة، لا وقت لديها لتلك التنظيرات الفارغة، ربما لأنها ستنطلق إلى المسيرة الليلية عقب انتهاء زيارة أختها الحبيسة. تكتب سارة علي منشور صديقنا تعليقا.. مسكينة سارة.. عبد الرحمن لن يرى تعليقها.. المباراة لا تزال مشتعلة.. والتكييف قد عاد للعمل.
القصد، أننا أمام حالة تتكرر مجددا تسعى لإعادة توليد معارضة مدجنة، رموز خارج الصراع بعيدين عنه مرتاحين من تبعات النضال، يتم فرضهم كمناضلين فوق الحراك المصري المتواصل منذ خمس سنوات، هؤلاء المناضلين المصنوعين لن يختلفوا كثيرا عن نظرائهم إبان حكم مبارك، فسرعان ما سيتبين دورهم الحقيقي في إكساب شرعية للنظام عبر المشاركة في انتخابات صورية، أو تثبيط لدعوات الموجات الثورية بدعوى الحفاظ على الدم.. وإن الانتباه بمثل هؤلاء واجب يقتضيه وعي المرحلة.
شاهد أيضا