أسئلة الندم وخيالات الرجوع | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

أسئلة الندم وخيالات الرجوع


الغربة في أولها حلوة، تداعب الأحلام، وتمنح الساخطين فرصة للبدء من جديد، وتحمل في استنشاق الهواء مذاقا جديدا يوهمك أنه طعم الحرية، وتزف إليك أنها ستعوض لك في قابل الأيام ما تكبدته حتى تصل إليها، لكنها سرعان ما تستحيل لعنة حين تتعاقب الأيام، حين تجلس وحيدا مرة، حين تجد قلبك القاسي يعجز عن مكابدة الدموع حين يلمح صورة لشاطئ طفولتك، أو ضاحية شبابك.. حين تطاردك أسئلة الندم وخيالات الرجوع.

أسئلة الندم وخيالات الرجوع

حين تخرجتُ في الجامعة، ظللتُ أزور الكلية يوميا في العام التالي، ربما بانتظام أكبر من حضوري إليها حين كنتُ طالبا.. كانت تلك محاولة للتشبث بمرحلة الجامعة وما فيها من وضوح رؤية واستقرار وثبات وأحلام وأمنيات، وهروبا من المجهول الصعب الذي ينتظرنا خارج أسوارها.

رحلة انخلاعي عن الجامعة لم تكن يسيرة أبدا، كنت أعتبر الراسبين من دفعتنا محظوظين للغاية لأنهم اقتنصوا سنة أخرى في رحاب الجامعة، بينما خسرنا نحن تلك المزية التي ما أردنا لها أن تنتهي يوما.

بعد التخرج، كنت أشعر بالدفء بين جدران الجامعة، وكلما صعبتْ الأمور في حياتي الجديدة كنتُ آوي إليها باحثا عن مقعد قرار، أتحسسُ فيها مقاعد المدرجات الخاليات، نادمًا على كل محاضرة لم أكن بين روادها حنينا لا علمًا.

بعد عامين أو ثلاثة، بدأت الأمور تتغير شيئا فشيئا، ومع الوقت اختفى شغف الجامعة، ولم تكد السنة الرابعة بعد التخرج تبدأ إلا وبتُ أشعر بوحشة المكان، رغم أن الجامعة هي هي، لكن شيئا ما بات مختلفا، غريبا، ناقصا.

كانت الجامعة لا تزال مكتظة بالطلاب والطالبات. لكن لا أحد منهم يعرفك ولا تعرفه، وغاب كل رفاق الأمس وأو من تبقى منهم.. عرفتُ وقتها كيف أن الجامعة ليست الجدران وحسب، بل روح وكيان، لك فيها أصحاب وتوأم روح، ووجوه ظللتَ تتفحص تفاصيلها سنوات وسنوات.. هؤلاء من تعلق بهم الشغف، ليس التراب ولا المبانى.

هذا حقا ما يعنيه الوطن، ذلك المعنى الذي لا يستشعر معناه إلا من غاب عنه، فكم أخفت محطات المغادرة من أشواق، وكم شربت مقاعد الطائرات من دموع مهملة حين خفتت أضواء الممرات وغفا الجميع إلا المحمول على جنباتها قسرا.

الغربة في أولها حلوة، تداعب الأحلام، وتمنح الساخطين فرصة للبدء من جديد، وتحمل في استنشاق الهواء مذاقا جديدا يوهمك أنه طعم الحرية، وتزف إليك أنها ستعوض لك في قابل الأيام ما تكبدته حتى تصل إليها، لكنها سرعان ما تستحيل لعنة حين تتعاقب الأيام، حين تجلس وحيدا مرة، حين تجد قلبك القاسي يعجز عن مكابدة الدموع حين يلمح صورة لشاطئ طفولتك، أو ضاحية شبابك.. حين تطاردك أسئلة الندم وخيالات الرجوع.

تلك الغربة تكسر من نفسك جانبا لا يبرأ.. حين تتصور يوما أنك بلغت من الإدراك في أرض ميلادك ما يكفيك عن الناس، تخلع عنك الغربة ما تستر به عورة بالك، فتتركك في مواجهة أخرى بأرض جديدة لا تملك فيها سوى شعور انفلات زمام النفس وتسرب طغيانها.

لا تثريب عليك يوم يغلبك الحنين والشوق والاحتياج والحوج وأنت من كنت تعبد في نفسك فرعونا أصيلا.. تجد نفسك دون مقاومة تستلم لكل بادرة التقاء، ثم تصحو فلا تجد للعودة سبيلا، ولا للاحتمال سبيلا. إنك تكبر، فتكتشف أن كل الأوقات التي قضيتها في اللهو واللعب وكنت فيها سعيدا في بلادك، لم تكن وقتا ضائعا حقا كما أخبروك.. بالأحرى، أنت لم تعش سوى هذه اللحظات!

شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.