مسّ الأحلام! | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

مسّ الأحلام!


الحياة الخادعة تصر على أن تلعب بك وبمشاعرك وأحلامك، فتفتح لك بابا إلى الأمل من جديد، فتبعث داخلك مطامع الوصول، وتخلع عنك خمول الاستسلام، ثم حين تصل بك الأمنيات حد الثورة، تغلق الحياة بابها الخادع مرة أخرى، فتصيبك بالحسرة القديمة كأنها أول مرة.. وهكذا دواليك دون أن تعرف لماذا تلعب بنا الحياة هكذا؟ ولماذا لا تكون صريحة واضحة، حتى لو كانت صراحتها صادمة قاتلة؟

مسّ الأحلام!

في ضاحية شعبية قرب آخر مدينة مأهولة بالبشر في القارة المنفصلة، وقف محمود، الشاب عربي الملامح، يقدم الطعام لرواد مطعم مهمل، كان محمود صامتا بشكل يبعث على الاستغراب، وابتسامته الصفراء التي يحيي بها الوافدين تكشف عن ألم دفين. في مثل تلك البلاد البعيدة، من الصعب جدا أن تلمح وجها عربيا، لذا يقتلك الغموض دفعا لاكتشاف هذا المخلوق النادر، ويستحثك الفضول للتنقيب في حكايته الدفينة، علك تسمع من بين شفتيه كلمات عربية تعيد لك من جديد حنين الذكريات.

السلام عليكم.. تلك الكلمة التي خلعت وجه محمود وهو يستدير بحثا عن صاحبها، الآن بدا الأمر واضحا، محمود صامت طوال الوقت لأنه لا يتقن البرتغالية والإسبانية حيث يتكلم سكان البلدة، لذا كان عليه أن يطبق شفتيه حتى يحسن الكلام. بدا أن كثرة الصمت قد انطبعت على سلوكه، فنسي الكلام أو ملّ منه، بدا متحفظا للغاية، غير مقبل على الحكي وشرح التفاصيل، رغم حنينه البادي إلى الحرف العربي المهمل في مسامعه.

محمود مهندس بترول متميز، دفعته ظروف مصر السياسية إلى أقاصي الأرض بعدما ضاقت عليه البلاد وحرمته التأشيرات فرصة القرار الأمين، فإذا به في موضع لا يحسن لغة أهله ولا طباع قومه، يفصله عن أقرب متكلم بحروف أهله محيط عظيم كامل. يقول محمود إن الحياة متعبة، وأكثر ما يُتعب فيها ملامسة الآمال ومس الأحلام.. بين الحين والحين، تبدو كل الطرق في وجهك مغلقة، تستلم، ومع الوقت تتعود، فتقبل راضيا أو ساخطا، ويبدو لك أن انغلاق الأبواب في وجهك أمرا عاديا مستطاعا.

لكن الحياة الخادعة تصر على أن تلعب بك وبمشاعرك وأحلامك، فتفتح لك بابا إلى الأمل من جديد، فتبعث داخلك مطامع الوصول، وتخلع عنك خمول الاستسلام، ثم حين تصل بك الأمنيات حد الثورة، تغلق الحياة بابها الخادع مرة أخرى، فتصيبك بالحسرة القديمة كأنها أول مرة.. وهكذا دواليك دون أن تعرف لماذا تلعب بنا الحياة هكذا؟ ولماذا لا تكون صريحة واضحة، حتى لو كانت صراحتها صادمة قاتلة؟

يواصل محمود الليل بالنهار عملا ليستعيد ثمن تذكرة سفره التي اقترضها من صديق، مبلغ كبير جدا نظرا لطول الرحلة وحالة محمود المادية. لا يعرف محمود ماذا سيفعل بعدها، ولا كيف رمته الحياة إلى هذا المنفى البعيد، ولا يدري أين راحت بلاده، وكيف غاب عنها أن تنظر إليه نظرة شفقة، وإلى أمثاله من الشباب المصري البائس. وغير بعيد، تقف غادة والي، الشابة الحسناء التي اختارها الجنرال المصري عبد الفتاح السيسي لتمثيل شباب بلادها في مؤتمره التجميلي we need to talk، متمللة وهي تراقب ساعتها في انتظار موعد طائرة عودتها إلى إيطاليا حيث تقيم منذ أن انتهت من دراستها في جامعة أمريكية مرموقة برسوم سنوية تتجاوز ما أنفقه محمود في سنوات عمره كلها.

انتهت غادة من كلمتها المدفوعة، أبدت تعجبها من الشباب الذي يهاجم جنرال بلاده، واستغرابها ممن تركوا بلدهم العظيم وغادروا راضين إلى بلاد أخرى.. صفق الجنرال، فصفق الحضور.. وتناقلت الكاميرات كلمتها المهيبة، وحملتها المواقع إلى كل مكان. وهناك، حيث يستريح محمود في غفوة من عمله، يلمح صورة غادة إلى جوار الجنرال، ورئسية الخبر فوقها بالبنط العريض: مصر الحنونة تستضيف شباب العالم للتعبير عن مشكلاتهم وتحدياتهم!
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.