التقنية التي تقتلنا
أليس مدعاة للسخرية أن يُكتب مقال يذم التقنية وتداعياتها في منصة تقنية يُقاس نجاح موضوعاتها بتفاعل جمهور التقنية نفسه؟ انظر كم الأمر مثير للشفقة وفاقد للمنطق.. يذكرني هذا بالعميد طه حسين حين كتب مقالا يدعو فيه لاعتماد العامية لغة مستقلة، واصفًا إياها بالبلاغة والاستغراق والكفاية.. لكنه كتب مقاله باللغة الفصحى طالبا النصرة لفكرته من جمهور الفحصى أنفسهم!
لكن لا بأس ببعض الجنون، فالتقنية لن يوقها مثل هذا العبث، هي قطار فقد سائقه القدرة على إيقافه، ومخلوق من عالم الشياطين أعيا صاحبه صرفه.. طوفان سيظل يتمد ويبتلع كل ما يقع في طريقه.. الماضي، والحاضر، والواقع.. وحتى الإنسان!
منذ أن ابتلعت التقنية حياتنا، أصبح الملل والاكتئاب قدر هذا الجيل.. لماذا؟ لأن التقنية تبتلع التفاصيل، تختصر المسافات وتقصف عمر التجارب، وتمنع عنا الاستمتاع بمشاعر الانتظار والوحشة والترقب والمفاجأة والاندهاش.. السابقون لم يكونوا يشعرون بالملل أبدا، كانت الأحداث تأخذ وقتها، كل شيء كان حقيقيا.. كان إيقاع الحياة بطئيا، والطبخة تنضج على نار هادئة.
قديما، كانت الزوجة تسهر أسابيع في انتظار شريط مسجل أو رسالة معطرة من زوجها المسافر.. كان يوحشها غيابه حقًا، أيام وشهور يشتعل فيها الحب والاشتياق.. فتقرأ الرسالة مرة ومرة ومرة، وتتفحص ما خفي بين السطور.. وتظل طول الليل تحتضن الورقة الصماء بين ذراعيها حتى يغالبها النوم والحلم السعيد.. كان ذلك حدثا مفصليا في حياتها!
كانت الأم تنخلع فرحة حين يناديها الجيران لمهاتفة ابنها من سنترال الحي الوحيد.. تسرع إلى طرحتها، تجرى، تحس بكل خطوة تخطوها، تزاحم الناس على سماعة الهاتف، ينخلع قلبها وهي تسمع صوت ابنها القادم من بعيد. كانت الكلمات مرتقبة.. كانت كلمة "وحشتني وواحشاني" تخرج من القلب حقا، ولها معنى حقيقي خاص. يعرفونه ولا نعرفه.
كان الناس يقرأون الأخبار في الجريدة فلا يعرفون غيرها حتى الصباح التالي، فيبقون ليلة بكاملها على الأرصفة والمقاهي لا يتحادثون إلا عن الخبر الواحد بكل تفاصيله وهوامشه.. يتفاعلون معه بهدوء ودون زحام أو تحديث، ليس مثل اليوم الذي صارت الأخبار الكئيبة تطاردنا، وتجبرنا على الهرب منها، كأننا لص يختبئ من ألف شرطي يلاحقه!
كان الحبيب يترقب لقاء ابنة الجيران كلما غفا عنها راعيها، فيشتعل اللقاء مفاجأة وشوقا، هؤلاء عرفوا معنى الحب، تفاصيله، لمساته ومشاعره.. حب به مكابدة وجهاد.. حب لا يعرفه أبناء الواتساب والسناب شات ومشاعر الضغطات والإعجابات.
كانت الأحداث تطول، تأخذ وقتها كاملا، يحس أصحابها بكل ثانية فيها.. التجارب تنضج.. الاشتياق والحب والوحشة والترقب والانتظار والمشاعر.. والمشاعر!
الآن.. لا قيمة لشيء، لا انتظار لشيء.. بضغطة زر يمكن للأم أن تهاتف ابنها في آخر الأرض، وبضغطة أخرى يمكن للحبيب أن يجاور حبيبته، وبينهما محيط وقارة.. الأخبار تدق بابنا لحظة بلحظة.. بلا مفاجأة، بلا وحشة، بلا ترقب ولا انتظار.
بديهي أن تكون أحداث الحياة أبطأ من جريانها.. وبديهي أن الحياة لا يمكن أن توفر لنا كل ثانية حدثا جديدا.. فما بالنا والتقنية قد سرّعت الحياة ألف مرة، فلم نعد نملك الوقت للتفاعل مع خبر سعيد، ولا الحزن لنبأ حزين.. لم نعد نحس بدقات الحياة، الحياة الطبيعية التي فطر الله الناس عليها.
لا يبدو الحل سهلا.. حتى إذا حاولنا تجربة الحياة الطبيعية، فلن تترك لنا التقنية فرصة.. الإشعارات تطاردنا، والرنات تزاحم صوت الموسيقى الهاديء.. الخيارات الكثيرة تقتل المتعة، وسهولة الوصول إليها يقتل الشغف.. لا تركيز، لا استمتاع.. يغلبك إحساس دفين أنه يمكن لك أن أن تجد متعة أكبر لو تركت ما في يدك وبحثت عن متاح آخر يسير.
كم مرة ضغطت على فيديو لتشاهده، فإذا بك بعد ساعة تكتشف أنك شاهدت عشرات الفيديوهات دون وعي، متنوعة المشاعر والأحداث.. فتجد روحك مضطربة كأنها عاجزة عن اختيار الشعور الصحيح؟ كم مرة قررت أن تشاهد فيلما قبل النوم، فدخلت منصة الأفلام لساعة كاملة تتصفحها، حتى يغلبك النوم دون رؤية شيء!؟
هذه هي التقنية.. خيارات كثيرة وسرعة مهولة، تقتل أجمل ما في تجربة الإنسان.. نحن متطورون وسريعون، لكن مكتئبون ومحرومون من الحياة.. لا وقت لدينا لنضج التجارب واشتعال المشاعر.. كل شيء أصبح مزيفا، سريعا، وجافا، وناقصا، غير ناضج وكئيبا.. ومملا!
لا أعرف صدقا ما هو الحل، وكيف لنا أن نتغلب على حالة الاكتئاب العام والملل الذي يبدو أنه لن يتوقف عند حدود جيلنا، ما دامت التقنية آخذة في السيطرة والإشباع.. لكني أؤمن أن أول خطوة للنجاة هي أن نفهم ما الذي يحدث، ما الذي تغيّر.. وآمل أن تكون تلك الكلمات لافتة أولى على الطريق الطويل.
عدد مشاهدات الموضوع:
شاهد أيضا