الأسطى نحمده [قصة قصيرة] | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

الأسطى نحمده [قصة قصيرة]


نحمده، أرملة خمسينية يعرفها سكان أبو قتادة بصوتها المرتفع، ومناشدتها المتواصلة لأهل الله لمساعدتها في توفير نفقات جلسات علاجها الأسبوعي، ترتدي على الدوام جاكت "ترينينج" قديم تقول إن زوجها أبو سعيد كان يرتديه كل يوم قبل ذهابه للورشة.

الأسطى نحمده [قصة قصيرة]



أعلنت صحيفة اليوم السابع عن مسابقة لاختيار أفضل قصة قصيرة تتناول كفاح السيدة نحمده التي التقاها السيسي صدفة وهي تقود ميكروباصها أثناء جولته التفقدية للعاصمة الإدارية الجديدة.. فكانت تلك مشاركتي بالمسابقة.

 (1)
السابعة صباحا بتوقيت القاهرة.. تداعب قطرات المياة الباردة وجه سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، سعيدة بحظها الفريد الذي أسكنها قصر الاتحادية، وشرفها بأن تكون غسول وجه رجل غيّر صفحة التاريخ.

إنه ليس يومًا عاديًا، فالرئيس لديه برنامج حافل لخدمة المواطنين، مشروعه الضخم الرائد "العاصمة الإدارية الجديدة" يحتاج دفعة حماسية للاستكمال، في ظل مؤامرات "أهل الشر" الذين ينبحون حولها، بينما هي تشق طريقها نحو الاكتمال، بفضل جهد الرئيس وسعيه الحثيث.

يلتقط الرئيس سريعًا بعض قطمات من فطوره "الكونتيننتال" اللذيذ، يمازح فريق الطهاة بالمزحة نفسها التي يلقيها صباح كل يوم، لكنها تخرج كل مرة بمذاق متنوع، كتنوّع مذاقات فطوره يومًا بعد يوم.. يقول الرئيس إن "الكونتيننتال" هو فطور الفنادق وليس القصور، لكنه يعلم أن مصر تمر بمرحلة فارقة من تاريخها، وعلى الجميع التضحية، والرئيس بالطبع ليس استثناءً.

بخطوات سريعة، يهرول الرئيس إلى باب القصر وصولا إلى سيارته السوداء المحصنة الفارهة، يظن فريق الحرس الشخصي أن هرولة الرئيس تعوّض ورده الرياضي الذي لن يتمكن من أدائه اليوم بسبب أشغال وظيفته الشاقة، فهو الذي يقول دائمًا إن مصالح الوطن مقدّمة حتى على لياقته وصحته.

لكن الحقيقة، هي أن الرئيس أسرع حتى يختزل الوقت الذي سيقضيه بعيدًا عن مكيّف القصر ونظيره في مقعده الوثير بالسيارة، الجو مشمس هذا اليوم، والرئيس برنامجه طويل، والرجل حريص على أن يظهر رمز مصر في أبهى صوره وأناقته.. درجة من الوطنية لا يعرفها هؤلاء المرتزقة من المأجورين المزايدين.

(2)
وغير بعيد، أو بالأحرى، بعيد للغاية.. في ضاحية مهملة بعشوائيات أبو قتادة خلف شريط مترو جامعة القاهرة، توقظ حرارة الشمس سائق الميكروباص منزوع السقف والأبواب، سعيد -الابن الوحيد لأمه الأرملة- مريضًا؛ حُمى قاتلة تستهلك جسد الشاب، بعدما أحرقت نار الطقس رأسه يوم أمس في انتظار دوره في طابور ميكروباصات نصر الدين.

سعيد قوي، شاب عشريني ليس من عادته الاستسلام للمرض، أو لنقل: لم يكن المرض ليفارقه بالأساس، لكن هذه المرة يبدو أن جسده قد طلب هدنة غير مقبولة التراجع.. تلك مشكلة، فسعيد "أزرقي"، يتكسب رزقه يومًا بيوم، كملايين المصريين الذي قد يموتون جوعا إذا ما اضطرتهم الظروف للراحة يومًا.

أمثال سعيد حين يمرضون تتعقد أمورهم كثيرًا، فهم سيحتاجون الدواء، والدواء يحتاج المال، والمال يحتاج العمل، والمرض يُقعدهم عن الخروج.. وهكذا دواليك في متاهة لا خلاص منها إلا بمثل ما فعلته أم سعيد.

نحمده، أرملة خمسينية يعرفها سكان أبو قتادة بصوتها المرتفع، ومناشدتها المتواصلة لأهل الله لمساعدتها في توفير نفقات جلسات علاجها الأسبوعي، ترتدي على الدوام جاكت "ترينينج" قديم تقول إن زوجها أبو سعيد كان يرتديه كل يوم قبل ذهابه للورشة.

وفي الأحياء الشعبية، مهما بلغ الرجل من فحولة، فإن أموره عندما تتعقد، لا تنحل إلا على يد "ست الحبايب"، ذلك قدر ارتضه أمهات تلك الأحياء منذ رحل عنهن أزواجهن موتا أو فراقا؛ تاركين لهن "العيال" كنوع من التأديب والتكدير.. وأم سعيد لم تكن إلا ابنة حيّها.

(3)
الزحام شديد في محطة نصر الدين بأول الهرم قرب ميدان الجيزة، الميكروباصات تتراص في انتظار دورها للانطلاق، يتناقل السائقون أن سعيد لن يعمل اليوم لأنه مريض، خبر لن يغيّر شيئا في مسار اليوم على أي حال، عدا أنه قد يكون خبرا سعيدا لدى السائقين اللاحقين له بجدول "التحميل".

لم تدم سعادة هؤلاء طويلا.. فجأة، يظهر ميكروباص سعيد بصوته المزعج وسقفه المفتوح وهو يزمجر معلنًا عن وصوله، يصطف في موقعه حسب الجدول، قبل أن تقفز من نافذة بابه الذي لا ينفتح السيدة نحمده.. أو الأسطى نحمده، كما ستصبح منذ الآن.

الناس في الأحياء الشعبية نسويون بالفطرة، أو لعلهم لا يملكون وقتا للذكورية بالأساس.. لم يدم حديثهم حول الأسطى نحمده كثيرًا، وسرعان ما انزوي كل سائق في مركبته لمراقبة المتربصين بدوره.. أما نحمده، فنادت بصوتها المزعج على الصبي "فتلة" ليحضر لها كوبا من الشاي الحبر الأسود.

(4)
في المواقف الشعبية وظائف طريفة، ليس أقلها السائس ولا التبّاع، ولا حتى "كبير الموقف" أو "النبطشي".. "الفتوة" الذي يتولى تنظيم شؤون سكان الموقف ومقيميه.. ذلك الكائن الذي يتمتع بحصانة خاصة، كونه عادة ما يعمل مخبرًا معتمدًا لدى واحد من أمناء الشرطة البارزين، وله عداوات مستترة و"ترخيما" على خلق الله الذين "لا يعجبونه".. وكان من بين هؤلاء المنبوذين، سعيد، الذي كان يلقبه النبطشي بـ"العيّل الرخم".

يترامى إلى مسامع النبطشي ما فعلته الأسطى نحمده بميكروباص الرخم، تثور داخله دماء الرجولة المستفحلة، ويمتعض غضبًا من مزاحمة "المرة" للرجال في الموقف، مستكثرًا عليها لقب "أسطي" الذي استحقته منذ اصطفت بموقعها في الطابور.

يحمل النبطشي "مطوته" و"نبوته" وينطلق صوب ميكروباص سعيد، آمرًا إياها بالمغادرة فورًا؛ لأنه "ميصحش وقفتها كده بين الرجالة".. تناطحه أم سعيد الحديث رجلا لرجل، رافضة استجداءَ رضاه بمرض ابنها، أو التمسكن لفحولته بأنوثتها المنقرضة.


يعتدي النبطشي على "المرة الدكر اللي بتعلي صوتها"، بينما يحاوطها بقية السائقين "الرجالة" وهم يشاهدون تلك "الدوشة"؛ ليكتفي أكثر الإيجابيين منهم بالنداء من بعيد: "طب بس صلوا ع النبي، روّحي يا أم سعيد واسمعي الكلام".

(5)
ترفض أم سعيد "سماع" الكلام، لكنها رغم ذلك تعود مرمغة إلى بيتها، لتحتضن ابنها النائم بإحدى يديها، خافية عنه الحرج الذي اشتق الأخرى.. يعتصرها الهم وهي تفكر كيف ستخبره بما حل بميكروباصه المتهشم في زاوية الموقف، أو ما باتت تحتاجه من ثمن لمخيط ذراعها المتهتك، فضلا عن جلسة الغسيل الكلوي الأسبوعية في الصباح التي لم تكن تملك من ثمنها إلا ما دفعته في الصباح لـ"كوباية الشاي الحبر الأسود".

تغلق نحمده باب "العشة" الحديدي الصدئ، وتنزوي في زوايتها وهي تهدهد ألم كليتها المصابة بيدها المصابة أيضًا، في مشهد تعبيري بديع لم تكن نحمده لتفهم رمزيته.. تقتات نحمده بعض الخبز المبلل وهي تستمتع إلى نشرة الأخبار في التلفاز المتهالك الذي لا تعرف هل عطبت شاشته أم عيونها التي لا تملك رفاهية الكشف عليها.

(6)
"نشرة التاسعة بتوقت القاهرة، أجرى السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي صباح اليوم جولة تفقدية استغرقت عدة ساعات لعدد من المشروعات الجاري تنفيذها بالعاصمة الإدارية الجديدة، وكذلك عدد من المشروعات في قطاع الطرق والنقل.

تأتي جولة السيد الرئيس في إطار المتابعة الدورية للمشروعات الجاري تنفيذها، خاصة المشروعات القومية الكبرى والمشروعات ذات الصلة بتطوير شبكة الطرق والكباري، في ظل أثرها المباشر على جهود الدولة لدفع عملية التنمية وتيسير الحركة المرورية للمواطنين ووسائل النقل بصفة عامة.

(7)
النهاية..
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.