البحث عن عذراء في جناح الولادة | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

البحث عن عذراء في جناح الولادة


كانت السيدة تتحدث بهدوء وروية شديدين، تهز رأسها مرتين قبل أن تتكلم، وتسترق بعض الهواء من تحت الكمامة بين حين وحين.. لا تعرف مصر، ولم تسمع عن دبي أبدا

البحث عن عذراء في جناح الولادة


في بهو الانتظار بالمستشفى العام في عاصمة الشمال البيروفي، جاورتني سيدة عجوز من سكان الغابات، وصلت لتوها إلى المدينة طلبا لمساعدة الأطباء في مواجهة مرض العمر الذي انحنى له جسدها. تجاعيد وجهها تخفي ملامحها أكثر من الكمامة الإجبارية، وعصا متينة من أشجار الماهوجني الأحمر تقوم مقام عمودها الفقري، تتمتم بعبارات من لغة الكتشوا المحلية التي لا تعرف فرقا بين العذراء والعروس، وقبعة أمازونية سوداء تحميها من الشمس التي تعبدها، فبدت إلى جواري إحدى الساحرات العجائز في أفلام الخيال!

كانت دقائق الانتظار طويلة، الإجراءات الاحترازية ضد الوباء زادت من طول طوابير التكدس، لا سيما أمام قسم الولادة الذي كان يقابلنا تماما، مزدحم بفتيات تحت السن، وحيدات يعلوهن القلق، تهتز الأوراق في أيديهن، وتتخبط أقدامهن كأن زلزالا يقع من تحتهن، وهو بالأحرى في قلوبهن التي تستعد لسماع النبأ الأخير الذي يتمنين سماعه في تلك اللحظة!

لاحظت السيدة العجوز كيف أحدق بهن، مازحتني: تبحث عن عروس؟ ابتسمنا، ثم تبادلت معها أطراف الحديث، كانت تتحدث بهدوء وروية شديدين، تهز رأسها مرتين قبل أن تتكلم، وتسترق بعض الهواء  من تحت الكمامة بين حين وحين.. لا تعرف مصر، ولم تسمع عن دبي أبدا، وبالكاد تعرف أن ما أحمله بين يدي يسمى هاتفا جوالا، لكن لم يسبق لها أن استخدمته أبدا.

أخبرتها أنني قادم من بعيد، بعيد جدا، ليس من يامانجو ولا ماتشو بيتشو، وإنما من أرض يبعدنا عن أقرب القاطنين بها قارة ومحيط عظيم، وأنه إن كان لعذابات الاغتراب ذروة، فإنها في الأغلب هنا، وأنه هيهات أن يدرك أحدهم السعادة بينما يرى في صفحة الخريطة كل يوم أن ما بات يفصله عن السقوط إلى حافة العالم، ليس سوى خطوة واحدة للوراء!

وكالجدات وهن يلقين حكمة الزمان إلى الأحفاد، أخبرتني السيدة أن السعادة يحملها قلب لا تراب، وأنها خلف الأمازون هي نفسها في الأرض البعيدة التي جئت منها، وأن كل ما قد يحتاجه المرء هو أن يحب نفسه والأرض حيث يعيش، وأن يبحث عن السعادة في مكامنها، لا في خياله المتوهم.. وأن فاقد السعادة ربما يبحث عنها في المكان الخطأ.

ثم مالت برأسها نحوي وقالت: تماما كما كان أحدهم يبحث الآن عن عذراء في جناح الولادة!

شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.