معذرة يا أستاذ: هذا النص ليس جميلا! | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

معذرة يا أستاذ: هذا النص ليس جميلا!


وحين عاد الأستاذ إلى مصر من جديد، راح يطالع النص العربي بروح الدارس الغربي، يفصص الكلمات ويحلل المعاني وينكب على النظم بعقل الرياضي المعملي الفاحص، لا بروح المتذوق الأديب.

معذرة يا أستاذ: هذا النص ليس جميلا!



قبل عامين، كنتُ جالسا وسط نحو عشرة من طلاب وطالبات تمهيدية الدراسات العليا بقسم الأدب العربي أمام أستاذ جامعي قدير يشرح لنا تفاصيل مادة تتعلق بمهارات البحث الأدبي في النص العربي.

أخبر الأستاذ بأنه سيستعرض قصيدة، ثم سيطلب إلينا أن نستخرج منها مواطن الجمال. راح الأستاذ بعدها يقرأ فقرات مفككة منفصلة حسبناها نثرية تقديم قبيل القصيدة المنتظرة.. كانت كلماتها، التي أُجبرنا فيما بعد على حفظها، تقول:

يا هاجر.. الصبي إسماعيل سوف يرتوي
برحمة من ربِّه... وتنطوي
دموعك المحمومة الحزينة
سيدفق الماء ويسقي سيله الغصن الكسير الملتوي
يرطّب الماء لإسماعيل
عينيه.. يديه.. فمه.. جبينه
يعطيه ياسمينة
يا هاجر الحزينة


استغرق الأستاذ، بعد أن انتهى من قرآءتها، لحظة صمت فاحصة وهو يتأمل الكلمات بابتسامة عارف قديم، قبل أن يطلق همهمات التأثر، نحو: الله الله على الإحساس والإحسان.. شايفين يا ولاد الحلاوة والروعة.

التفت الأستاذ إلينا أخيرا منتظرا إجابة ما كلفنا به حول البحث في قصيدته عن موطن للجمال، لكنه لم يلق منّا إلا الصمت الذي لا يتخلله سوى نظرات نفهم جميعا معناها.. عدا الأستاذ الذي كان مستغرقا لا يزال في التأمل في جماليات القصيدة!

الحقيقة، لم يكن النص جميلا بالأساس حتى نستخرج منه موطن جمال!.. كيف يريد الأستاذ منّا أن نستخرج الإبداع من نثر سخيف لا يحمل جمالا، وإن حمله متخفيا فإنه لن يخرج عن نظم فلسفي موغل في الحسابات والتعقيدات!؟

أخيرا، تجرأ أحدنا وصارح الأستاذ: لا مواطن جمال في القصيدة، القصيدة ليست جميلة من الأصل!.. توقف الزمن لحظة قبل أن ينحرف موضوع المحاضرة إلي تعنيف ذلك المتعالم الصغير البائس الذي لا يرى الإبداع المترامي من نص شاعرة العصر، نازك الملائكة.

خرجنا من المحاضرة يائسين بائسين بعد أن فقد الأستاذ الأمل في أن يجد بيننا من يقدّر الجمال ويتذوق الفن العميق الرائق.. في الحقيقة، بدأنا نتشكك في أن مع الأستاذ بعض الحق، إنه دارس قديم، لا شك وأن لديه حجة خفية، لا شك أن النص جميل كما أخبر، ربما نحن -جميعنا- لم نتأهل بعد لاستقبال هذا الجمال العميق.

تملكنا هذا الشعور لحظات، إلى أن وقف زميلنا صاحب الصوت الرخيم، محاولا كسر ملل انتظار المحاضرة التالية، ينشد:

يا ساكني مِصرَ إنّا لا نَزالُ على.. عَهْدِ الوَفاءِ وإنْ غِبْنا مُقِيمِينَا
هَلاَّ بَعَثتُمْ لنا من ماءِ نَهرِكُمُ.. شيئاً نَبُلُّ به أَحْشاءَ صادِينَا
كلُّ المَناهِلِ بَعدَ النِّيلِ آسِنَةٌ.. ما أَبْعَدَ النِّيلَ إلاّ عَنْ أَمانِينَا


مقارنة لا إرادية انعقدت بين درة أمير الشعراء شوقي وبين نص نازك الملائكة، الحقيقة أننا استحيينا سريعا من أنفسنا حين تجرأنا ووضعنا جواهر شوقي في مقارنة مع تلك النثرية التي لا نعرف لها وصفا.. إننا على صواب، هذا ليس شعرا، الشعر ما نشعر بجماله طبعا لا اصطناعا وتكلفا.


• الإشكالية:
إن أكبر إشكالية وقع فيها أغلب أساتذة الأدب العربي الحاليين أنهم لم يكونوا شعراء أو بلغاء قبل الدخول إلى مضمار الأدب، فضلا عن أنهم تلقوا تعليمهم الأدبي الأعمق عبر دارسات خارجية أوروبية النصوص والمناهج.

لقد أورثت تلك الدراسات في خاطر الأساتذة وعيا أدبيا مؤسسا جديدا لا ينتمي للبيئة العربية بأي حال، فالنصوص التي تعاملوا معها غربية أوروبية، لها خصيصتها ومواضع فتنتها وتأثيرها الذي يختلف كثيرا عن نظيرتها العربية.

لقد اعتاد الأستاذ حين كان طالبا في جامعات أوروبا أن يدرس القصيدة الغربية بروح عالم الرياضيات، يترجم كلماتها، ثم يفهم المعنى مجردا، دون إحساس ببلاغة النص أو استيعاب لخصيصته.

وحين عاد الأستاذ إلى مصر من جديد، راح يطالع النص العربي بروح الدارس الغربي، يفصص الكلمات ويحلل المعاني وينكب على النظم بعقل الرياضي المعملي الفاحص، لا بروح المتذوق الأديب.

من المؤسف أن نقول إن "الذوق الأدبي" لأغلب باحثي الأدب العربي الحاليين فاسد، مستعرق في التبعية للمنهج الغربي العتيد، محاولا تطويع النص العربي الأبي للظل الغربي المهيمن على العقول قبل الساحات الأدبية والعلمية.


• عودة من جديد:
وقبل يومين، تقدمت بخطة بحثي لنيل درجة الماجيستير في الأدب الإسلامي في دراسة فنية لشاعر خليلي فصيح، لكن رئيس قسم الأدب بالكلية رفض الموضوع لأنه يريد دراسة "أكثر عمقا" من مجرد محاولة اكتشاف أسرار "شعر مفضوح صريح".

اقترح الأستاذ عليَّ أسماء عدد من شعراء الجيل الحالي، القاسم المشترك بينهم جميعا أنهم من مدرسة نازك الملائكة، شعر الطلاسم السطري الفلسفي الموغل في الرمزيات والتلميحات.. لكن الجديد هذه المرة، أن الأستاذ لم يطلب استخراج مواطن الجمال، لقد ابتعد عن هذا المطلب البديهي كثيرا كثيرا.

لقد اقترح الأستاذ أن أدرس حيوية اللغة المكتوبة (دراسات إحصائية رياضية ترصد نسب تكرار الألفاظ ومصادر الكلمات عير القصيدة وأثر ذلك على موسيقا النص الخارجية)، أو أن أدرس سيماء الفراغ في النص (دراسات هندسية تبحث في المرامي الخفية للفراغات البيضاء في الصفحات وموضع عنوان النص وتقسيم الأسطر وطولها وأثر ذلك على الجو العام للنص الأدبي المدروس).. واقتراحات أخرى على الشاكلة ذاتها!


• إشكالية أخرى:
هنا إشكالية أخرى، فبعض الباحثين الكبار لم يتفرنج ذوقه الأدبي وحسب، بل إنه يريد أن يدرس النص العربي بمنهجيات غربية، الدراسات السيمائية والرمزانية ومنهجيات ما بعد النص والنصوصية والحداثية!

هيهات أن يتذوق الباحث جمال شعر العرب وهو يحلله بمنهجية لا تنظر في النص إلا إلى شكله وتنظيمه وطوله وقصره وعدد كلماته وكل شيء يحتويه.. إلا روحه!

لقد شح عن الدراسات العربية الأدبية روح المتذوق العربي المعتز بلغته وخصوصية أدبه، وسيطرت عليها منهجيات انهزمت حضاريا وفكريا قبل أن تستلم علميا ومنهجيا للباحث الغربي الصريح.


• خصوصية النص الأدبي:
يغيب دائما عن العرب الدارسين في بلاد الغرب أن الأدب الغربي الحديث أدب كتابي لا إلقائي، لذلك فإن النص الغربي يستمد أغلب تأثيره في قارئه من النص المكتوب، شكل الأسطر وعناوين القصائد ورسومات الأغلفة وتلميحات الفواصل وتقسيمات الهوامش وفنيات الطباعة.

في الحقيقة، إنهم يدرسون هذه الشكليات هربا من دراسة النص ذاته، لقد تحولت الدراسات الأدبية الغربية إلا حرفة صناعة، لقد صارت أقرب إلى علوم الهندسة والرياضيات منها إلى علوم اللغة والمصطلحات.

الأدب العربي، خاصة الشعر، الأولوية فيه للإلقاء لا الكتابة، لذلك يستمد النص العربي تأثيره في قارئه من وزنه وموسيقاه الثابتة علي طول النظم، بلاغة الكلمات ودقة التصاوير، عمق الصور ودقة التشبيهات، واستجلاب التراث واستحضار التاريخ.

إن هذه "الخصوصية" التي تميز الشخصية الأدبية العربية عن نظيرتها الغربية لا بد أن تكون حاضرة قوية في نفوس الدارسين العرب قبل أن يسافروا إلى الآخر، حتى لا يصلون إليه فارغين ينهلون عنهم كل ما في جعبتهم فيتشكلون به ويصطبغون بلونه ويتحيزون له، ثم يعودون يدرسون شعر المتنبي بأدوات دارس شعر ميلتون الإنجليزي.

إن الدراسات الأدبية العربية تحولت إلى لوغاريتمات فلسفية أحق لها أن تنضم إلى كليات الحساب والعقائد منها إلى كليات اللغة والبيان، حاول مرة أن تطالع عناوين الرسائل العلمية المسجلة في كليات الأدب العربي في الجامعات المصرية لتكتشف ذلك.

ربما علينا أن نؤسس في علوم النظم قسما جديدا يدرس ما يمكننا أن نسميه "الخصوصية الأدبية للنص"، خلاصته البحث في مواطن التأثير في أدب كل أمة من الأمم، وبالتالي تحديد أولوية ما يُدرس لاكتشاف روح النص وفقا لتلك المواطن، وتميزا للأدب القومي عن سواه، فالعولمة لا يمكنها أبدا أن تطرد على مناهج بحث آداب الشعوب.
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.