لماذا لم يعد رحيل السيسي أمرًا ممكنًا؟
هذا المقال نُشر أول مرة في مدونات الجزيرة هنا.
تجاوز مطلب رحيل السيسي شرائح الوعي المصري؛ ليصبح أمنية لدى قطاع كبير من العامة غير المؤدلجين، فلم يعد خافيا كيف أن كثيرا من أنصار الجنرال العسكري قد ضاق ذرعا بإخفاقاته، لاسيما الاقتصادية منها. الوضع الاقتصادي المصري يشهد انهيارا غير مسبوق، لكن السيسي يلعب بذكاء، فيضمن إلى جواره الفئة «المهمة» من أصحاب الرواتب الثابتة، لذا تنهال المكافآت والعطايا على القضاة وكوادر الجيش والشرطة بهيستيرية مقصودة، تاركا القطاع الأضعف -والأكبر أيضا- بلا ظهير ذا بال.
العطايا التي يمنحها السيسي لحاشيته، تأتي في أغلبها، على شكل قرارات مستقلة برفع الرواتب أو البدالات.. الأمر الذي لا ينتبه إليه المستفيدون من تلك العطايا، أن نقطة ضعفها تكمن في قوتها.. فالسيسي -الذي يعرف تماما إلى أين يسير بالاقتصاد المصري- يضمن صمت فئة القضاة والإعلاميين بتلك العطايا المحددة والمقيدة بقرارات منفردة، تجعل من السهل أن يعود كل شيء إلى سابق عهده، حين يفض يده عن خدماتهم.
سيضمن السيسي حال تعويم الجنيه أو استمرار الانهيار الاقتصادي صمت القضاة وغيرهم من أصحاب العطايا وتحفزهم ضد أي حراك مناهض.. وبعد استيعاب غضب أصحاب الرواتب الثابتة من موظفي الدولة «العاديين»، يستطيع السيسي بتمثيليلة صغيرة مع برلمانه، وربما بدونها، أن يُبطل كل قرارات زياداته وبدلاته لصالح أصحاب العطايا، في اللحظة المواتية.
بل ربما يضرب السيسي عصفورين بحجر واحد، فيستجيب لغضب الشارع بقرارات تقشفية أولها التراجع عن كل العطايا الممنوحة لحلفاء الأمس، فيجعل أي انتفاضة لهم مرفوضة من العوام، إذ ستصبح انتفاضة فئوية، وضد رغبات رجل الشارع!
الآن، يعرف السيسي أن لديه حليف عظيم، على استعداد حقيقي لأن يخوض حربا شرسة للدفاع عن بقائه وبقاء دولته في الحلف الروسي، وقريبا سيحط الجنود الروس رحالهم في قاعدتهم المنتظرة
ساعتها، سيعود القضاة وغيرهم من جديد إلى رواتبهم الأولى، لكن سيكون أوان الاحتجاج قد مر، فضلا عن أن عدم حاجة السيسي لخدماتهم ستجعلهم عرضة للبطش الذي كانوا يد الجنرال في فرضه من قبل. هكذا يؤمِّن السيسي نفسه جيدا لمواجهة الأزمة الاقتصادية المُنتظرة، لكنه يعرف أن الرهان دائما يكون على أصحاب الكلمة العُليا من اللاعبين الدوليين، لذا خاض السيسي رحلة طويلة من البحث عن الحليف العتيد من بين أصحاب العروض المتاحة.
لقد أحسن السيسي تحليل المشهد السوري، وأدرك تماما أن أمريكا ليست حليفا حقيقيا، بينما روسيا هي العمود الراسخ، فالنجمة الحمراء لم تخذل من ارتكن إليها يوما، وطائرات الدب الروسي دائما على استعداد لخوض أي حرب، دفاعا عن «حُلفائها». روسيا الأجدر بثقة النظم العسكرية بالشرق الأوسط، وهي حليف جيد على أي حال، فشواهد مشاركاتها في الدفاع عن من يرتمي بأحضانها مرصودة، والمعارك التي خاضها الجنود الروس في أوكرانيا دفاعًا لا لشيء إلا حماية لـ «الصديق»، ودفاعها عن كوريا الشمالية إلى الآن في مواجهة النظام العالمي، وكذلك انضمامها إلى جوار الصين حين كان العالم كله يناصبها العداء.
حين زار السيسي روسيا، خلع بوتين على الجنرال المصري سترته المزينة بالنجمة الحمراء، أيقونة الجيش الروسي.. الرسالة واضحة "كن لنا، نكن جيشك". استوعب السيسي الرسالة، وحسم خياراته مبكرا، فإذا كان الدخول في جوار روسيا يجبر السيسي على التحالف مع بقية «الفريق» الشرق الأوسط، فمرحبا بالدعم المصري لإيران والعراق وبشار وكل من يرتدي السترة الروسية.
أدرك قادة الخليج، صاحبة كيس المال، أن غلامهم الصغير لم يعد كما كان بالأمس، وأنه منذ اليوم عليهم أن يعاملوه كصاحب خيار، لا كتابع مرتزق يُشترى بـ "الرز". فالجنرال أدرك أن معارك الخليج لا تهمه، وأنه إن استمر بها سيخسر شقيق الحلف الروسي، إيران.. لذا، إن كان الخليج كله عقبة أمام رضا الروس فإن الأمر يحتاج تضحية صريحة، وقد فعلها السيسي.
تصويت مصر لصالح المشروع الروسي، تبعه في اليوم التالي استقبال مصر لرئيس مجلس نواب العراق، سليم الجبوري، الراعي الرسمي لمليشيا الحشد الشعبي الإيراني المرضيّ عنها من روسيا. بعدها بساعات، قالت موسكو إن مصر أبدت ترحيبا مبدئيا باستئجار قاعدة عسكرية روسية في مصر، قبل ساعات من إعلان مصر، لأول مرة في تاريخها، استقبال وحدة عسكرية روسية في مناورة مشتركة على أراضيها، تحت اسم "حماية الصداقة". لا يبدو اسم المناورات عبثيا، فالصداقة قامت بالفعل، وبدأت إجراءات حمايتها، وروسيا تصرف ببذخ لتسمين حليفها، ودخول مصر في الحظيرة الروسية أمر يستحق أن يُبذل من أجله الكثير.
عرش السيسي الآن أصبح مستقرا كفاية لأن يتحول النموذج السوري إلى رفاهية أمام ما يمكن أن يفعله جنرال مصر حال تهديد عرشه
الآن، يعرف السيسي أن لديه حليف عظيم، على استعداد حقيقي لأن يخوض حربا شرسة للدفاع عن بقائه وبقاء دولته في الحلف الروسي، وقريبا سيحط الجنود الروس رحالهم في قاعدتهم المنتظرة، وسيغدو الحرس الجديد على مقربة من الجنرال المفدى. وسيدرك المجتمع الدولي، مع الوقت -إن لم يكن أدرك- أن الاستغناء عن السيسي سيورث مصر تجربة أكثر عنفا ودموية من مليشيات بشار، فالسيسي لوّح الأسبوع قبل الماضي إلى أن «جيشه» قادر على أن ينتشر في مصر كلها خلال 6 ساعات فقط، السيسي الآن يُعد مليشياته الخاصة بحرفية كبيرة.
وإذا كانت مصر لا تضم كتلا ديموغرافية واضحة المعالم كالسنة والشيعة في الحالة السورية، فإن استحضارها وخلقها لحظة الحاجة لا يبدو أمرا مستحيلا، فالصراع في سوريا لم يكن طائفيا في بدايته على الإطلاق، بل إن كثير من أصحاب الهبة الأولى من الطلاب في سوريا لم يكن يعرف أي طائفة يتبع بشار أصلا، ولم يكن الأمر ذا بال لديهم.
رحيل السيسي لن يكون بتلك الأريحية التي يظنها البعض، ولا صحة مطلقا لأطروحات تنتشر بين المؤدلجين في أن «المجلس العسكري» سيضحي بالسيسي إذا ما وجد سلطانه على البلاد ينهار، وأن السيسي ما هو إلا قزم على رأس قمة من الجبابرة الكبار.
الحقيقة التي يجب أن نصارح أنفسنا بها، هي أن رحيل السيسي قد يجعل عبارة "أحسن من سوريا والعراق" تغدو ضربا من التندر، فعرش السيسي الآن أصبح مستقرا كفاية لأن يتحول النموذج السوري إلى رفاهية أمام ما يمكن أن يفعله جنرال مصر حال تهديد عرشه، ولربما اصطف اللاجئون المصريون أمام معابر سوريا والعراق -وهم في حربهم- إلى الظل هربًا من «المحرقة المصرية».
شاهد أيضا