عبثية المشاعر
في عزاء أحد الممثلين المصريين، حضر عشرات من زملائه الفنانين يبكون، وتناقلت مواقع الأخبار صور الرثاء المهيب.. لكن، وعند المساء، كان الفنانون أنفسهم يرقصون فرحا بتوزيع جوائز أحد أكبر المهرجانات الفنية السنوية. وقتها، سيطر الاستغراب على المتابعين، كيف يستطيع هؤلاء أن يتنقلوا بين المشاعر وكأنهم آلات صماء مبرمجة!.. كيف استطاعت صور بكائهم "الصادق"، في الصباح، أن تنتزع من قلوبنا الحزن، قبل أن تخلع -هي هي- منها الفرح على أنغام الرقص في ليلة اليوم نفسه!؟
لكن، تعرف؟ كلنا نفعل الأمر ذاته، القدرة على التنقل الناجح بين المشاعر المتناقضة، والتعبير عنها في كل مرة بالقوة نفسها، بِيد أن الوسط الفني والتمثيلي أضحى أكبر كثيرا من تصوره القديم. كم مرة كنتَ تستعرض الأخبار والمنشورات، فتقرأ خبرا عن سوريا، يُبكيك للحظات، ثم منشورا ساخرا، يُضحكك لحظات أخرى، ثم مقطعا مرئيا ثالثا عن حركة حيوان زاحف لا شعور يغلبك عند رؤيته سوى الرتابة والملل.. تفعل هذا كله في دقيقة واحدة.. ثم تروح تترجمه في منشوراتك وتعليقاتك! هل تجد الآن فرقا كبيرا بينك وبين حضور العزاء القديم؟ لا يبدو أن ثمة اختلافا كبيرا بين ما فعلته بنا التقنية مؤخرا، لقد خلقت من مشاعرنا نموذجا مشوها للغاية، لا ملامح للاستقرار فيه.
ربما لذا أبدع صديقي يوما حين وصّف ما تفعله التقنية بمشاعرنا حين بـ"عبثية المشاعر واضطرابها"، لقد فقدت كثير من المعاني المجردة البسيطة قيمتها حين اختزلتها الشاشة الزرقاء، فصار الحب والبغض والسعادة والإعجاب والامتعاض والغضب، كلٌ يبدأ بضغطة وينتهي بأخرى!
في عامي الأخير بالجامعة، حيث كانت التقنية الذكية لا تزال في مراحل زحفها الأول، صادفت ذات يوم طالبة تبكي لمحدثتها في الهاتف وهي تصرخ بحرقة: "عملي بلوك يا سارة، خلاص عملي بلوك". بالرغم من سخرية المشهد، وما أعقبه من ضحكات المارين، إلا أن صرخات الفتاة كانت صادقة للغاية، ربما أدركت قبل الساخرين منها أن ذلك "البلوك" يشبه طلاقا رجعيا، كانت تعتبر أن إقدام مقصودها على تلك الخطوة يعدو تطورا خطيرا في رحلتهما.
اليوم، يمثل الفيسبوك سبب ثلث حالات الطلاق في بريطانيا وحدها، وحالة من كل 3 حالات طلاق في المملكة المتحدة تعود لاكتشاف شريك الحياة وجود علاقة مع طرف آخر عبر الإنترنت من خلال موقع الفيس بوكب، حسب دراسة أجراها موقع Divorce-Online المتخصص في مشكلات الطلاق. الآن، مرة أخرى، كيف ينجح أصحاب العلاقات الإلكترونية في تمثيل دور الحبيب مرتين في آن واحد؟ كيف -بحسب شهادة حية- يمكن لطرف أن يكون بجواز زوجته بينما يستنسخ عبارات الغزل من لسانه إلى شاشته الصغيرة حيث حبيبته الثانية؟
وغير بعيد، يمكن للأصدقاء أن يرصدوا المشاعر المزيفة بين أصدقائهم بسهولة.. أتذكر صاحبنا الذي كان يكتب منشورات تضامنية مع ضحايا سوريا يحكي فيها كيف أن دموعه لم تنقطع منذ شاهد صور المذابح، وأنه يكتب منشوره الآن وهو يتحرَّق خجلا ومرضا.. احتفى الناس بكلامه، وأتته رسائل المواساة تترى.. بينما كتب هذا كله وهو جالس بجواري على مقعد ملعب كرة القدم، ننتظر مباراتنا التالية!
على ذكر الكرة، في بطولة أفريقيا الأخيرة، فوجئت بصديقي الذي لم أعهد عنه معرفة بكرة القدم، وقد تحولت منشوراته إلى سردية تحليلة تسير مع المباريات دقيقة بدقيقة!.. غير أنه اعتذر عن دعوتي إياه لمشاهدة المباراة التالية معا، فهو -بحسب قوله- يكون في دوام عمله، بينما يكتفي بنقل تغريدات المتابعين بتصرف يسير!
الخلاصة أنا أيضا -في أغلب لحظاتنا الإلكترونية- لسنا صادقين فيما نكتب أو نشعر، فلا المتعاطفون مع الضحايا عبر منشوراتهم بائسون، ولا المهللون فرحا بمباراة فريقهم قد شاهدوها يقينا.. كل شيء حولنا في هذه المواقع يبدو مزيفا.. كلهم يخلع على أعتابها ملابسه، قبل أن يكتسي بلونها الأزرق الصافي!
تلعب المنشورات بمشاعرنا، فنترجم كل شعور بمنشور، وكل تنهيدة بتغريدة، فتبدو صفحاتنا فاضحة أمام مشاعر متضاربة متناقضة لا يفصل بينها سوى ثوانٍ معدودات.. لذا، هذه الأيام، لا تتسرع حين يسألك أحدهم: كيف تشعر؟، فتجيب: بخير أو بشر.. اخلع عنك تلك الكلمات الوثوق.. صدقني، أنتَ لا تعرف حقا ما الذي تشعر به!
شاهد أيضا