مقعد وحائط | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

مقعد وحائط


"لا أحب أن أخيفك يا بُني.. لكنك لن تجد في الصورة إلا المقعد والحائط"..

مقعد وحائط

في إحدى بلدات الجنوب البيروفي، قابلتُ فلسطينيا عجوزا من المُهجريّن الأوائل، شيخا كبيرا طاعنا في السن، منحنى الظهر، تغطي حواجبه عينيه، يلهث حين يتحدث، وينظر نحو الأرض طول الوقت، شعره ساقط، وصوته خافت.. يديه مرتعشة، ولا يرفع رأسه إلا قليلا..
 ْ
ساقته سفن التهجير قبل نحو سبعين سنة من فلسطين إلى شمال تشيلي، كان يومئذ طفلا صغيرا دون عائلة.. وفي واحدة من مناوشات البيرو مع تشيلي، حملته أسرة شامية يناديها الجيران بالأتراك (وقد كان العرب يومئذ يُعرفون بين اللاتينيين بالترك!) وانتقلوا به إلى الجنوب البيروفي..
 ْ
كان أصحابه اللاتينيون ينادونه بآدم.. مقطوع من شجرة، أول نسله، بلا أب ولا أم.. لكن رغم ذلك لم يكن يمنح الشاب أملا في البقاء سوى سعيه الحثيث لمعرفة أهله، وأن تمنحه الأيام فرصة شاخصة لوداع أمه إن كانت له أم، أو حتى إشعار عائلته بأنه ما زال على قيد الحياة..

بعد أربعين سنة، وصل اختراع غريب إلى البيرو ينقل الصوت عبر الأسلاك.. مكّن العجوز (وقد كان شابا يومها) من الاتصال بأهله أخيرا حيث يعيشون في طمرة الجليل.. على الجانب الآخر من الهاتف كان محدثه هو حفيد أخيه، وبعد دقائق قليلة عَلم أن أحدا من عائلته لم يبقى.. وأن من بقي من عائلته قد استقبل العزاء فيه قبل أربعين سنة أو يزيد، حتى إن حفيد أخيه حين نادى والده، هتف: أبي، تعال.. جدي -رحمه الله- على الهاتف!
 ْ
منذ ذلك الحين، عاش الرجل (أو للدقة: مات) دون أوراق ثبوت، لم يحصل على جنسية أو حتى إقامة رغم مقامه في تلك الأرض أكثر من سبعين سنة.. لا يمتلك أي عقار، وما زال يعمل باليومية في السوق الشعبي، يرتاح يوم الأحد، ويصلي وحيدا يوم الجمعة، ولا يضيئ الأنوار في غرفته المستأجرة إلا حين يفتح الباب لطارق.. ببساطة، لم يعد يسعى لإثبات شيء!
 ْ
استأذنتُه في التقاط صورة له على مقعده المستند إلى حائط تعتليه صور جيفارا وياسر عرفات وبوب مارلي وأم كلثوم.. أبى وابتسم..
ْ
"لا أحب أن أخيفك يا بُني.. لكنك لن تجد في الصورة إلا المقعد والحائط"..
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.