آخر قلاع الإنسانية | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

آخر قلاع الإنسانية


إذا كان ثمة ما يجب أن يقال في نهاية القصة، فهو أن بلادنا الشرقية الحييّة، هي آخر قلاع الإنسانية الباقية على وجه البسيطة...

آخر قلاع الإنسانية


 قبل نحو عامين، بعد ليال قليلة من الارتحال إلى الإكوادور.. تعرفتُ إلى صديق لاتيني يتحدث الإنجليزية، كان بالنسبة لي مفتاح بوابة الأرض الجديدة، ولساني في شوراعها..
 
ذات يوم، طلبتُ إليه أن يصطحبني إلى مكان يمكننا فيه أن نلتقط أنفاسنا بعيدا عن الأوراق ومكاتب المحامين.. وعدني بمفاجأة رفض الإفصاح عنها.. وفي السابعة ليلا، أنزلتنا الحافلة أمام خيمة خشبية كبيرة منصوبة عند أطراف المدينة.. 
 
في البداية، ظننُتها مسرحا، لكنّ الغموض الذي كان يحيط بالمكان كان مريبا للغاية.. وفور دخولنا، بدا واضحا تماما أين نحن، إنه سوق متنقل للممنوعات، حيث الدعارة غير المقننة والمُغيبات الممنوعة. 
 
في بعض مناطق أمريكا الوسطى والجنوبية، تقام على فترات متباعدة أسواق عابرة يسمونها "فرية -feria" (وهي لفظة عربية تعني العمل الجاد، تقول العرب: ما يفري فريه أحد، وتركته يفري الفري. ومنه حديث حسان: لأفرينهم فري الأديم).. 
 
عادة، في "الفرية"، يبيع الناس البضائع والأطعمة في منطقة غير مُعتادة، ثم يرحلون إلى مكان آخر حيث يعرضون بضاعتهم.. لكن بعضا منها يقام على الأطراف، وهناك، تُباع بضائع أخرى تماما!
 
يدفعك الفضول أحيانا لرؤية المجهول، فرصة لا تتكرر كل يوم أن تعبر من نفق.. لذا لم يدم التردد كثيرا قبل أن ندفع رسوم الدخول.. وخلف الباب، كان عالم آخر بانتظارنا.. 

فور دخولنا، وقعتْ عيني على أول البضائع، وأكثرها رواجا فيما يبدو ليضعونها عند الباب.. فتيات بالكاد شققن الخامسة عشر أو ما يربو، عاريات أو يكدن، مصلوبات عند أبواب الأكشاك الفارغة إلا من سرير ومصباح.. كأعمدة إنارة مطفئة، لا يتأففن من العيون التي تتفحصهن، ولا يتحركن إلا إذا استخرج أحدهم من جيبه ثمن دقائق المتعة العابرة.
 
في أمكنة كتلك، لا يمكن توقع أي احتياطات للسلامة أو مراعاة للضوابط والقانون.. كانت الفتيات تحت السن، يعملن بلا تراخيص صحية، وبلا أي تدابير وقائية.. أغلبهن بائسات مُعدمات لا يحملن أوراق ثبوت، لاجئات بلا ملفات، أو عابرات للحدود عبر الغابات.. وفي مجتمع يمكن فيه أن يتحول أي شيء لسلعة، وقفن عند الأسِرة يبعن الشيء الوحيد الذي يملكنه تقريبا!
 
توقفتْ رحلتُنا هنا، بالكاد بعد أمتار من الباب حيث دخلنا.. كان المكان موحش جدا رغم زحام المخمورين.. وكانت أصوات التأوهات المتسربة من الغرف غير المُغلقة بإحكام تدفع للخجل والاستحياء.. لكن الدقائق التي قضيتُها هناك -على قِلتها- مرّت زخِمة، مزدحمة بالتفاصيل والخبايا!
 
كل الرجال يحبون النساء، فطرة الله وزينة الدنيا.. لكن بعض المواقف لا يمكن فيها للغرائز أن تتحرك طبيعية.. سرقة رخيصة وغصبة لا مروءة بها، ومنصة نخاسة يستحي السويُّ أن يكون نصيبه منها أو مقامه فيها.. حتى وإن سقطت النفس لحظة عند التفاتة سرعان ما تتلاشى أمام قبح الوسيلة وخبث الوصول!
 
إحدى الفتيات المزروعات عند الأسِرة، كانت شابة في عمر المراهقة، يبدو على وجهها المعضل أمارات الفقر.. فور دخولنا من الباب الرئيس، نظرتُ مباشرة في عينها.. ارتبكتْ الفتاة قليلا، ربما لم تعتد أن ينظر أحد إلى وجهها في مكان كهذا.. كنتُ مصدوما، وفضولي في الوقت نفسه لأسألها عن كثير.. لم يكن معي إسبانيتها، ولم يكن معها عربيتي.. لكنها رغم ذلك، أجابت بعضها دون حديث..
 
يحب الرجال عادة استعراض مغامراتهم الخارقة مع الفتيات، وصولاتهم الرابحة على الدوام في عالم النساء.. هل كان عنترة ابن شداد يحب عبلة حقا؟ أم كان يحب أن يوثق قصص بطولاته في المعارك -وهو العبد النكرة- مقرونة باسم ابنة كبير العرب وسيد قبائلها، لتلوكها ألسنة العرب ويُكتب لها (بطولاته لا عبلة) البقاء والخلود؟.. ربما لذلك يعتبره كثير من النقاد شاعر فخر، لا غزل!
 
في طريق عودتنا.. جادلني الصديق في أنني أفسدت الليلة وقبحتُ استقبال مفاجئته.. لم أجادله كثيرا، كنت غارقا في تفاصيل ذلك النفق البعيد والحيوات العالقة فيه.. ذلك النفق الذي خرجتُ منه سريعا، لكن لم يغادرني قبحه وظلام جوانبه حتى اليوم..
 
إذا كان ثمة ما يجب أن يقال في نهاية القصة، فهو أن بلادنا الشرقية الحييّة، هي آخر قلاع الإنسانية الباقية على وجه البسيطة.. وأنه على الرغم من كل مساوئ مجتمعاتنا، وما يُشتكى فيها من اقتحام للخصوصية أو تعليب للشرف، فإنها تظل أقل المجتمعات شرا، وأكثرها حفظا لكرامة الإنسان.. وهذا ما استغربه صديقي بشدة حين أخبرته إياه! 

- في بلادنا يا صديقي لا يمكن أن ترى مثل تلك الخيمة!
- تصادرها الشرطة؟
- بل لا يقبل الرجال رؤيتها.. والرجال حصرا!
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.