عقلية الأستاذ أشرف
هل تتصور بعد عشر سنوات أن تهرب في سيرتك المهنية من ذكر عدد سنوات خبراتك؟ هل تصدق أن تُستبعد من وظيفة بسبب أنك تعمل في مجالها منذ سنوات، بينما يُقبل خريج جديد يُتصور أن يكون أكثر رجائية وابتكارا من قولبتك الجامدة؟ هناك نظرية في إدارة الموارد البشرية بالفعل تتحدث عن هذا الأمر.
تقوم النظرية -التي وضعها البروفيسور غاري هاميل من جامعة هارفارد- على استبدال قسم "الخبرات" في السير الذاتية، بقسم جديد يسمى "الابتكارات"؛ معللة ذلك بأن الشخص الخبير سيكون مكبلا بتجاربه القديمة الحاجزة له عن التفكير المستقل، تاركه إياه واقعا تحت تأثير العائق الذهني.
النبي يوسف، عليه السلام، وضع قاعدة إدارية مهمة، وهي أن الملامة في كل مشكلة، تقع على كاهل القيادة الجامدة المنخلعة عن الابتكار، حتى في ظل انعدام الموارد تماما، كما حدث إبان المجاعة العالمية التي نجت منها مصر بفضل عبقرية الفكرة التي بثها يوسف من سجنه.
ما نقصد إليه هنا هو أننا بحاجة إلى فكر جديد، قبل الأفكار الجديدة، فالأخيرة فرع عن الأولى ووظيفة تالية لها.. هل تعلم مثلا أن شركات العالم البارزة اليوم قائمة على أفكار لا موارد: «أوبر» ليس عندها سيارة واحدة، وعملاقة التخزين «علي بابا» ليس عندها مخزن واحد، و«إير بند» أكبر شركة فنادق في العالم ليس عندها غرفة واحدة، و«فيس بوك» صاحبة النصيب الإعلاني الأكبر، لم تنتج وحدة إعلانية واحدة!
• الأستاذ أشرف:
قبل أسابيع، استضاف برنامج تلفزيوني أحد نجوم الطليعة الشبابية الفنية في مصر، الذي راح يتحدث عن الأعلام الذين أثروا في حياته وطموحه، فسمى منهم اثنين: الأستاذ أشرف عبد الباقي، والأستاذ عادل إمام.
اليوتيوب وفر مادة جيدة لحوارات مماثلة لعدد آخر من نجوم الطليعة، إلا أن أغلبهم أجمع على أن الأستاذ أشرف، هو القاسم المشترك فيما بينهم جميعا، وأنه صاحب اليد الطولى في تصدرهم ونجوميتهم.
لكن رغم ذلك، فالتقييمات المحايدة لا يجب أن تخضع للعواطف، أشرف عبد الباقي فنان له إنتاج جيد في نظر البعض وضعيف لدى آخرين، إلا أن الحقيقة تبقى أن إنتاج عادل إمام يبقى الأكثر كما وكيفا، وأن عبد الباقي لا يزال أمامه الكثير حتى يُحصل موقعه إلى جوار إمام، فضلا عن أن يتقدم اسمه.
ما الذي فعله أشرف عبد الباقي كيف يضمن لاسمه مكان الصدارة في ذاكرة الوسط الفني ونجوم مستقبله المنتظرين؟.. ما فعله عبد الباقي باختصار هو ابتكار فكرة تجعله أستاذا رغم أنف الجميع، وباستحقاق تام، فأسس -في النهاية- فريق «مسرح مصر» الذي خرّج أغلب الفنانين الشباب الأبرز حضورا على الساحة الآن.
الذي يجعل الأمر عند عبد الباقي ليس مجرد مصادفة، هو سعيه المتكرر لتنفيذ الفكرة بطرق مختلفة، فقبل «مسرح مصر»، خاض عبد الباقي -بالفريق نفسه- تجربة مماثلة في برنامج «دارك» أو «جد جدا - برنامج مالوش دعوة باسمه».
ظل عبد الباقي يخطط لفكرته ويتحين الفرص لنجاحها، حتى كُللت بالنجاح أخيرا في مسرح مصر، هذا ما يؤكده أحد أبرز «إنتاج» المشروع، الممثل الشاب علي ربيع، بأن عبد الباقي حضر قبل 4 سنوات، إلى مركز الإبداع بدار الأوبرا المصرية، حين كان الشباب يمثلون مسرحية مع المخرج خالد جلال، فبادرهم عبد الباقي بعد العرض بمشروعه المتكامل الذي يفكر فيه، وهو تكوين فرقة «مسرحية-تلفزيونية» من الشباب والوجوه الجديدة، تعيد المسرح المصري للحياة من جديد.
• كوداك vs انستغرام:
على الجانب الآخر، نجد نموذج شركة «كوداك» التي تأسست عام 1892 على يد جورج ايستمان، والتي ظلت خلال القرن الماضي أيقونة مجال معدات التصوير ومواده وأدواته، ووصلت حصتها الى 90 % في السوق الأميركي.
مع دخول الرقميات الحديثة، وقعت قيادة الشركة في مأزق المقارنة بين التفكير العقلاني القائم على التطبيق الصارم لأساليب حل المشاكل بالمنطق التقليدي، والتفكير الابتكاري الحدسي الجديد، فاعتقدت كوداك أن أي تغيير سيحصل لن يؤثر كثيراً عليها ريادتها للمجال، دون أن تطرح تساؤلات وتصورات حول السيناريو المستقبلي مع هذا التغير الحاصل.
مع دخول الرقميات الحديثة، وقعت قيادة الشركة في مأزق المقارنة بين التفكير العقلاني القائم على التطبيق الصارم لأساليب حل المشاكل بالمنطق التقليدي، والتفكير الابتكاري الحدسي الجديد، فاعتقدت كوداك أن أي تغيير سيحصل لن يؤثر كثيراً عليها ريادتها للمجال، دون أن تطرح تساؤلات وتصورات حول السيناريو المستقبلي مع هذا التغير الحاصل.
وفي نهايات عام 2011، أعلنت شركة كوداك العريقة إفلاسها بعد تاريخ حافل بالنجاحات يمتد إلى 133 عاما، في الوقت نفسه الذي كان تطبيق يدعى «انستغرام» يتيح للمستخدمين التقاط صورة، وإضافة فلتر رقمي إليها، ومن ثم مشاركتها في مجموعة متنوعة من خدمات الشبكات الاجتماعية. ومن المفارقة أن تضاف صور اسنتغرام على شكل مربع، على غرار Instamatic كوداك، وكأنها تعلن استحوازها على عرش صدارتها.
• القصد:
خلاصة هذا السرد هو الوصول إلى ضرورة سعي كل قيادة (سياسية كانت أو حزبية أو حتى عملية) لخلق فكر ابتكاري جديد، فالعالم لن ينتظر أحدا، ولن يكون رحيما مع أصحاب التجارب التقليدية الديكتاتورية المنخلعة عن إعطاء فرصة للجيل الصاعد في الابتكار والتحليل.
والمثير للسخرية، أن قادة كل الكيانات والحركات والأحزاب، عادة ما يكونون منخلعين عن الجيل الذي يرسمون مستقبله، بينما يُعزل الشباب -الذي سيصاحب التجربة نفسها- من خلق ثوابتها وتصوراتها، فيكون الحاصل أن قيادة عجوزة تُقصى أصحاب الحق، وتروح تبني مستقبلا لن تعيشه!
شاهد أيضا