العودة إلى الهامش | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

العودة إلى الهامش


نحن أبناء الظل ومواليد الحجب وسُكان الهامش، فيه وُلدنا، وفيه نمت أحلامنا، ما عهدنا النور يوما كي نبتئس حين يحجبه المجانين، تشتعل مواقدنا حين نكون في عوالمنا المغلقة لا نرى النور الخادع ولا يرى سواد غضبنا، ما فعلتم إلا أنما حجبتمونا عن عيونكم، وأعدتمونا من جديد إلى خنادقنا المفردة، وتوشك جدران الخنادق أن تتداعى يوما ما.

العودة إلى الهامش


في الجزء الثالث من سلسلة أفلام المصفوفة The Matrix Revolutions حين اقتحم بطل العمل "نيو" المختار مقر المصفوفة للقاء المهندس المجهول في الحجرة المتخمة بالشاشات، ظن أنه يحمل سر مدينته المستترة تحت الأرض وأنها بمعزل عن عيون الرقابة، إلا أن المهندس ما لبث أن أخبره بأن تلك المدينة الخفية لم تكن إلا جزءًا من الخطة، وعمود رئيس في بناء المصفوفة!

تلك قاعدة مطردة، إذ يعمد أصحاب التجارب الديكتاتورية إلى خلق "خندق" يهرب إليه المناهضون له، ظانين بذلك أنهم في مأمن عنه، يخيل إلى الرائي أن خندقهم راية الثورة والخروج، بينما هم في الحقيقة إنما دخلوا إلى حيث يكونون دائما تحت وصاية صانع المصفوفة القدير.

لكن السؤال المنطقي الذي يتبادر إلى الذهن: ما الذي يدفع أصحاب التجارب الديكتاتورية إلى القبول بهذا الخندق؟ ولم لا يقضون على المناهضين لهم، سواء قبل التخندق أو بعد حلوله؟ في الحقيقة إن الأذكياء من الديكتاتوريين يعلمون أن ذلك مستحيل، لا أحد يقتل "كل" مناهضيه، تبقى دائما بعض النطف خارجة عن التدجين.

لذلك، فإذا كان القضاء على المناهضين للتجارب الديكتاتورية غير ممكن، فأقل الخسائر أن يكونوا موجودين تحت الأعين والسيطرة، ولا مجال لتحقيق ذلك إلا بخلق مساحة لهم، تبدو -خداعا- عصية على الإتيان، لكنها -في الحقيقة- نتوء مقصود ومراقب.

لا يعرف سياسيونا الجنرالات ذلك الأمر البديهي أبدا، ويصرون على أن يحاصروا كل ظاهرة معارضة لسلطويتهم القاهرة، وتغلبهم البزة العسكرية قليلة الوعي، فيحكمون البلد الذي اعتلوه بقوة السلاج بعقلية رجل الحرب، لا مدير السياسة.

في مصر، بعد أن أغلق النظام العسكري الحاكم أية مساحة للحرية أمام المناهضين، بقيت مساحة أخيرة تمثل متنفسا أمامهم، لم تبخل ساحات الإنترنت عليهم بخندق كبير يبنون فيه عالمهم الافتراضي المقاوم. هذا العالم لم يكن النظام بمعزل عنه، إذ كل الحركات فيه تبقى تحت المراقبة، ومهمة فرق الأمن تبقى في الترصد والتتبع، لا في الإغراء والتخطيط.

يبدو إذن كل شيء تحت السيطرة وفي مصب النظام العسكري المتغلب، لكنّ عقلية الجنرالات لا تفقه تلك البديهيات، فشرعت إلى حجب كل مواقع المعارضة، الإسلامية منها والعلمانية، وحتى تلك المحايدة التي يصعب صبغها بأي لون واضح.

هذا غباء، ليس فقط من الناحية الحقوقية وزاوية الحريات، لكنه غباء سياسي قدير، إذ إن النظام بذلك الحظر إنما يقطع التيار عن شاشاته التي يراقب منها خندق المناهضين.

نظام مبارك كان أكثر ذكاءً في إدارة الأمر، إذ عرف كيف يخلق معارضة مدجنة، لها أول وآخر، هي جزء من بناء النظام وحقيقة وجوده، وإن خُيّل إليها أنها في زاوية الخصم.

لكن "الهفوة" الذي وقع فيه نظام مبارك فأدت إلى تفلت سيطرته على المعارضة التي سعى لتدجينها، يمكننا أن نتفهم أسبابها؛ فمبارك -ونظامه العجوز- لم يستطع أن يجاري التقدم التكنولوجي الذي هب فجأة، ووجدت فيه كيانات المعارضة سلوى عن التظاهر والاحتجاج الميداني.

لم يكن نظام مبارك الشائخ قديرا على أن يثبت نفوذه في منصات التواصل وغرف المنتديات، فضلا عن "مرض" العسكرية الذي ظل ملازما لمبارك حتى بعد ثلاثين سنة من الانقطاع عنها، فعمد إلى تزوير الانتخابات التي صاحبت سقوطه بنسبة كاملة، فكأنه زج بالمعارضة إلى المتنفس الإلكتروني الجديد.

هكذا دائما، عقلية الجنرالات تجعلهم واثقين من قدرتهم على وأد كل معارضة، وإنهاء أي وجود للمغايرة في مجتمع المصفوفة العسكرية، والإتيان على كل خندق.. تلك آفة العسكرية حين تختلط بالسياسة، تحكم الشعوب بعقلية الأمر والنهي، والموت كل الموت لمن يفكر في المخالفة، فكلام الجيش الحاكم رصاص، أو كما قال الجنرال المصري: الجيش أداة قتل لا غير.

لا يعرف الجنرالات المصريون أن قرارهم هذا لن يضر سواهم، إذ إن المناهضين لحكم العسكر لن يختفوا حين تحجب ميادينهم، إنما سيسعون إلى خلق عوالم أخرى، أعمق سرية، أكثر خفية، عصية على الترصد والمتابعة.

سيؤسس المناهضون عوالمهم الجديدة، وستتسع يوما بعد يوم، وسيكبر فيها الشباب الصغير حتى تكتظ بمن فيها، لن يعرف النظام ما الأفكار التي تسّوق داخلها، وإلى أي مدى وصلت جهازيتها، وكيف كانت ردود أفعالها على الأحداث والملمات.

تلك العوالم المغلقة ستظل كالمواقد المشتعلة على الزيت، تغلي، وتنظر لحظة الفوران، تلك اللحظة التي سيكون النظام قد نسي أن يحسب لها حسابها، إن لم يكن قد نسى وجود تلك العوالم الخفية وأجيالها المستترة، ولا أجار الله الجنرالات من جيل تربى في الظل حين يرى بادرة النور.

نحن أبناء الظل ومواليد الحجب وسُكان الهامش، فيه وُلدنا، وفيه نمت أحلامنا، ما عهدنا النور يوما كي نبتئس حين يحجبه المجانين، تشتعل مواقدنا حين نكون في عوالمنا المغلقة لا نرى النور الخادع ولا يرى سواد غضبنا، ما فعلتم إلا أنما حجبتمونا عن عيونكم، وأعدتمونا من جديد إلى خنادقنا المفردة، وتوشك جدران الخنادق أن تتداعى يوما ما.
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.