الحج.. ورغبة الكفيل! | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

الحج.. ورغبة الكفيل!


ثمة مرض معروف لدى علماء النفس، يسمونه "حبسة بروكا"، يصيب الإنسان حين يواجه موقفا لا منطقيا، فيعجز لسانه على أن يصيغ عبارات مفهومة، بالرغم من أن عشرات الإجابات تتقافز في ذهنه، إلا أنه لا يستطيع أن يرتب تلك الفوضى، فيجد لسانه في حالة صمت عاجزة تماما، حتى إذا كان في العادة منطلق الكلام.. هذا ما حدث تحديدا لي في تلك اللحظة.

الحج.. ورغبة الكفيل!

كانت صدمة شديدة حين أخبرني مدير شئون العاملين أن طلبي أداء فريضة الحج قد تم رفضه. كنتُ بالفعل قد أنهيتُ تجهيز حجياتي لأداء الفريضة، آخر ما كنت أفكر فيه هو أن تَرفض الإدارة الطلب. هذا بيت الله، وتلك فريضته الكبرى، وها قد أصبحتُ على بُعدِ أمتار منها، ولديّ رصيد إجازات كافٍ جدا لمنحي الموافقة، ولم يكن في العمل ثمة حاجة ماسة للبقاء. لقد قدمتُ الطلب كإعلام من أجل مراعاة العمل المؤسسي لا أكثر، أو هكذا كنتُ أظن!

ثمة مرض معروف لدى علماء النفس، يسمونه "حبسة بروكا"، يصيب الإنسان حين يواجه موقفا لا منطقيا، فيعجز لسانه على أن يصيغ عبارات مفهومة، بالرغم من أن عشرات الإجابات تتقافز في ذهنه، إلا أنه لا يستطيع أن يرتب تلك الفوضى، فيجد لسانه في حالة صمت عاجزة تماما، حتى إذا كان في العادة منطلق الكلام.. هذا ما حدث تحديدا لي في تلك اللحظة.

كنتُ أفكر في الدعوات التي وعدتُ أمي أن أخصها بها أمام الكعبة، وخيبة الأمل التي ستعتريها حين أخبرها أنني لن أستطيع زيارة بيت الله، وزيّ الإحرام الذي بتُ ليلتي أتعلمّ كيفية ربطه، والأوراق التي دوّنت فيها الدعوات التي أوصاني فيها الأصدقاء.. والأهم من هذا كله، تلك البداية الجديدة التي كنتُ أنويها حين أعود كيوم ولدتني أمي، كانت رحلة الحج بالنسبة لي أكثر من مجرد فريضة، لقد كانت الأمل الباقي لنيل فرصة للبدء من جديد.

كل تلك الأفكار وغيرها تقافزت إلى ذهني حين أخبرني مديرُ الشئون الرفضَ، لكنّ لساني لم يستطع ترجمة كل هذا إلا بكلمة واحدة يائسة أمام وجه الرجل الصارم: لماذا!؟ أخبرني أنه لا يجوز لي طلب أداء الحج إلا بعد مرور عامين على العمل في المؤسسة على أقل تقدير، أخبرته أن عقدي مع المؤسسة مدته عام واحد فقط، وأنني إذا فاتني الحج هذا العام، فقد لا أدرك الحج التالي وأنا داخل البلاد.. قال: هذا قانون. سألتُه: قانون الدولة!؟ أجاب: لا، قانون المؤسسة.

يعرف الكفيل قانون بلده جيدا، ويعرف أن ذهابي للحج دون موافقته أمر قد يعرضني للترحيل إلى مصر، مع حرماني من دخول المملكة خمس سنوات على أقل تقدير.. وفي حالتي، لم أكنْ أملك رفاهية المُخاطرة. لذا، لم يكن أمامي بدٌ من تغليب السلامة، فالرجوع إلى مصر أمر يعرف الكفيل أنه ليس مقدّرا لي، ويعرف أيضا أنها الورقة الرابحة في وجه كل مصري.

لم يكن هناك بدٌ من أن ألتقى رب المؤسسة وصاحب كلمتها وواضع قانونها، الكفيل.. كان كث اللحية، قصير القميص، يُطل مسواك من جيبه، يستقبل في مكتبه كبار الأئمة والمشايخ بعد الصلاة، ويستدعي آيات القرآن في حديثه معنا على الدوام.. لم أكن أعرف ما عليّ قوله كي أتحصل على إذن بحج بيت الله، وما هي المبررات التي يمكنّ سوقها في مثل تلك المواقف.

سرعان ما لم يُخيب الكفيل ظني، وبدأ حديثه بالقرآن، ليخبرني أن الحج عبادة، وأن طاعة ولي الأمر عبادة أيضا، وأنه -في تلك البلاد- ولي أمري، وأنني لو حججتُ دون رغبته، فإن حجتي غير مقبولة، لأنها قامت على معصية، والله طيب، فلا يقبل إلا طيبا.

أقف الآن بخشوع أراقب ذلك المشهد المهيب على عرفات الله، أتأمل وجوه الحجاج الخاشعة الخاضعة المستبشرة، أتحسر كيف أنني لم أستطع أن أكون مكانهم وقد كنتُ جار بيت الله وأقرب إليه منهم جميعا. وأبحث عن مكاني الذي كنتُ سآوي إليه فوق الجبل لو كان الله قد قدّر لي الوقوف عليه يومها.

في النهاية، حدث ما كنتُ أخشاه، وانتهى عقدي بالمملكة، ورفض الكفيل منحي موافقة العمل في مؤسسة أخرى داخل البلاد، وطالبني بالمغادرة، حتى قبل نهاية الأيام الأخيرة من التعاقد؛ كي يتمكن من استخدام التأشيرة في استقدام عامل غيري في وقت قياسي.. أنا الآن خارج حدود المملكة.

المُحصلة أنني قضيت في السعودية مدة عام وبضعة أشهر، لم أستطع فيها حج بيت الله، ولم أنل فرصة زيارته سوى ليلة واحدة، سرقتُها بتمرد كان حصيلته سماح يومين فقط، استغرقتُ أحدهما في الطريق ذهابا وإيابا، والآخر في مكة؛ حيث أدركت في حرمها الشريف فريضتين لا أكثر.. كان هذا هو كل نصيبي من بيت الله في مجاورته عاما كاملا.

أتوهم أحيانا أنني أرى وجه الكفيل بين الحجيج يداعب أسنانه بمسواكه وهو يدعو الله أن يتقبل منه طاعته ويرفع إليه حجته، ولم لا؟ هو لا يحتاج مواقفة كفيل، ولا إذن ولي أمر، ولا كل تلك الأوراق التي نحتاجها.. أرأيت؟ تلك الحياة ليست عادلة على الإطلاق، لكنَّ العزاء أنّ الله لن يُغفل ذلك حين يحاسب عباده.
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.