أتدري ما الوطن يا غسّان؟ | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

أتدري ما الوطن يا غسّان؟


حين كنّا صغارًا نغني أناشيد اللجوء، كانت أزقة القدس وشوارع يافا وحيفا تملأ الوجدان.. لم يكن يدور بخُلد أحدنا أننا سنغني تلك الأناشيد -هي هي- بعد سنوات، لكننا سنستحضر بها ليالي القاهرة وحارات رمسيس الإسكندرية!

أتدري ما الوطن يا غسّان؟


(1)
"ما هو الوطن يا صفية؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ بالنسبة لبدر اللبدة، ما هو الوطن؟ أهو صورة آية معلقة على الجدار؟".

كانت تلك تسؤالات غسان كنفاني، على لسان سعيد، بطل روايته الكبرى "عائد إلى حيفا"، إلى زوجته صفية.. كان سعيد واثقا جدا حيال معرفته بمعنى الوطن. لذا، فقد أجابها في وثوق، إجابته الشهيرة: "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله".

غابت عن سعيد زاوية مهمة، وهي أنه لا يزال بالدار، لا يزال يجلس فوق المقعد الساخط عليه، لا يزال يتناول طعامه على الطاولة المستهلكة، ويراقب المارين عبر الشرفة الآيلة للسقوط، لا يزال يداعب خلدون، ويشعر بالأبوة، والبنوة، والزوجة، والحياة.. ظن سعيد أن عمق فلسفيته، وبساطة عقل زوجته التي تصدق كل ما يقول، قد يعوضانه الرحلة المقدسة في معرفة معنى الوطن حقا.. الغربة، والابتعاد عنه!

أخبرك سرا يا سعيد؟ نعم، الوطن هو أن يحدث ذلك كله، الوطن هو ذلك الركن الذي تأوي إليه دون انتظار تذكرة المغادرة، الوطن هو ألا تحمل عبء الرحلة القادمة، الوطن هو ريش الطاووس يا سعيد، هو صورة القدس في القلب وعلى الجدار. الوطن هو أن تجد مثل صفية تستمع إلى هُرائك.. الوطن هو خلدون، هو بدر اللبدة.. أرأيت يا سعيد، الوطن هو أن يحدث ذلك كله!

(2)
في الجامعة، نظمَتْ كلية دار العلوم مسابقة أدبية حول القدس للشعراء الشباب، حاولت وقتها أن أكتب قصيدة عن حب الوطن المغتصب الذي لا نستطيع إليه وصولا.. الوطن هنا يعني فلسطين، والحنين يعني التحرير، والوصول يعني الصلاة في حرمها المقدس.. كتبتُ:

قد كنتُ أسأل جدتي:
ما القدس هذا؟
ما الذي قد يمنع الأطفال أن يأتوه يوما؟
ولماذا لا نزور القدس هذا باكرًا بعد الفطور؟
ولماذا كلما حدثتُ أستاذي عن الأقصى يثور؟
ولماذا يلعنُ الحكام والعلماء..
ثم يحدِّث الأطفال عن معنى الضمير؟

كان أكثر ما يشغل بالي في تلك الفترة هم أطفال اللجوء، هؤلاء الذين وُلِدوا خارج فلسطين وكبروا بعيدا عنها، هؤلاء الذين لا يعرفون عنها سوى شعارات النضال وأغاني الرجوع. كان مشهد الطفل الذي يسأل جدته المهاجرة عن الأقصى يتقافز أمامي ليل نهار، أتخيل ذلك الموقف المهيب، وكيف يمكن للجدة أن تخلق في خاطر الطفل حب الوطن الذي لا يراه.

لم يدور بخلدي أن آخذ مكان الجدة في المشهد يوما ما، أو أن الطفل -هو هو- سيسألني السؤال ذاته، لكن ليس عن القدس هذه المرة، بل عن القاهرة!

(3)
على ذكر الطفولة، فإن أكثر أغنية كنتُ أُحبها في طفولتي، كانت ترسم حلم العودة إلى الديار؛ حيث القدس ويافا وعكا.. اليوم، حين أغنيها، أجدها تأخذ القلب إلى موضع لم أكن أتخيل يوما أن تصنعها بي كلماتها: 

لا أعرف معنىً للمنفى
أو أعرف أسرار بِعادي
لكني أحفظُ أسماءً
أكتبها دوما بفؤادي
*
كل رفيق من رفقائي
يحكي عن وطن يهواه
وأنا وطني ملءَ دمائي
لكني لا لا ألقاه

هكذا، حين كنّا صغارًا نغني أناشيد اللجوء وأغاني الاغتراب، كانت أزقة القدس وشوارع يافا وحيفا تملأ الوجدان، وكان حلم العودة في خاطرنا يتجسد في الوصول إلى فلسطين ومسجدها المهيب.. لم يكن يدور بخُلد أحدنا أننا سنغني تلك الأناشيد -هي هي- بعد سنوات، لكننا سنستحضر بها ليالي القاهرة وحارات رمسيس الإسكندرية، وأن حلم العودة سيستحيل إلى الصلاة في جامع الفتح أو عمرو بن العاص!

غريب ما فعلته بنا حادثات الحياة! كيف جرى الأمر على هذا الشكل وكأن فجوة قد ابتلعت الزمن فأخرجتنا هنا دون سابق ميعاد؟ أقف أحيان كثيرة أتأمل السائرين في شوارع تلك البلاد الغريبة، وأتساءل: من هؤلاء؟ وما الذي حط بي هنا؟ وكم بقي في لي بطاقة الإقامة المؤقتة؟ ومتى يحين موعد المغادرة؟ وإلى أين؟ ما الخطوة القادمة؟.. والأهم؛ متى سينتهى هذا كله؟

(4)
لك يا مصر السلامة، وسلامًا يا بلادي.

شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.