غضب المحيط | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

غضب المحيط


للناس في القارة المنفصلة طقوس غريبة ونفوس أغرب، هنا في جنوب القارة يعرف الناس الكوارث الطبيعية أكثر ما يعرفون شهور الرخاء، أعمال الترميم لا تتوقف طول العام، وشبكات الطرق لا يكتب لها أبدا أن تتم في سلام، والمشاريع القومية لا تزيد عن كونها أساسات تخلعها المياة كل عام. ‏

غضب المحيط


‏لا أحد في بلادنا يهتم كثيرا للتغير المناخي وظاهرة الاحتباس الحراري وما يعقبها من تأثيرات.. يرى المواطن العربي أن تلك الأحاديث تمثل ترفا علميا ونفسيا لا طاقة لأمثاله بالتحري عنها، فالناس عندنا لا ينتظرون تقلبات المناخ كي يموتون، ولا أحد في بلادنا يطمح لأن يعيش طويلا حتى يدرك آثار تلك التغيرات.
‏لكنّ الناس في الناحية الأخرى من الكوكب يهتمون للتغير المناخي كثيرا، لا سيما هؤلاء المتاخمين للشرير الأعظم على تلك الأرض، المحيط.. هناك حيث تسمع أحاديث تغير المناخ على ألسنة العامة، وتتراكم بحوث الأساتذة حول الاحتباس الحراري، وتزخر مشاريع تخرج الطلاب بمخترعات مواجهة الفيضانات والسيول.
‏للناس في القارة المنفصلة طقوس غريبة ونفوس أغرب، هنا في جنوب القارة يعرف الناس الكوارث الطبيعية أكثر ما يعرفون شهور الرخاء، أعمال الترميم لا تتوقف طول العام، وشبكات الطرق لا يكتب لها أبدا أن تتم في سلام، والمشاريع القومية لا تزيد عن كونها أساسات تخلعها المياة كل عام.
‏حين ضرب إعصار إرما تلك المنطقة، كان إعصار آخر يدعى خوسيه يلاحقه تماما، للمرة الأولى يجتمع إعصاران من قلب المحيط نحو منطقة واحدة! وبسرعة جنونية بلغت الـ 240 كيلومتر في الساعة لكل منهما.. هذا تطور مخيف! الناس في جنوب القارة يعرفون هذا، ويعرفون أيضا أن القادم أسوأ.
‏لماذا القادم أسوأ؟ يجيب بائع جرائد مقيم في ضاحية إكوادورية مظللة. يقول الرجل إن الأعاصير دائما ما كانت ترسل إشارات قبل حصولها، وإنه يتذكر كيف حملته أمه عشرات المرات في طفولته هربا من إعصار قادم.. لكن المحيط هذه الأيام أصبح غادرا جدا، فجأة يثور، ودون سابق إنذار.
‏ما يقوله الرجل صحيح للغاية، فالبحوث الأخيرة تتحدث عن جنون المناخ، أصبح التنبؤ بما يدور في المحيط أمرا صعبا للغاية، وتسارع التخبطات في جوانبه باتت أكثر من أن يتم إحصاؤها.. التكنولوجيا البنائية التي تتحدى الزلازل والسيول بدأت تتخبط أمام عنف المحيط، وشبكات طرق بأكملها انخلعت بعد أسابيع من الانتهاء منها.
‏في مارس الماضي، ضرب فيضان غاضب تخوم القارة تاركا إياها عائمة عدة أسابيع، مدن كاملة غرقت وأخرى لا تزال منازلها المهدمة شاهدة على انتقام المياه، قتلى في الشوراع ومحتجزون في البنايات ومفقودون في المناطق العشوائية والبعيدة.
‏ما أدهش الناس وقتها، هو المفاجأة التي لم يتعودوها من المحيط الجار، هكذا دون سابق إنذار ينتفض المحيط وترتفع مياهه مبتلعة الشاطئ وما حوله، معلنا عن كارثة غير مسبوقة بانتقامية عنيفة واعتداء غير مفهوم.
‏يعرف الناس هناك أن الأمر لم ينته بعد، ولا يزال الباعة يترقبون ما يجبؤه المحيط هذا الشتاء، لا سيما بعد عجز وكالات رصد الأعاصير عن مجاراة ما ينتاب المحيط من جنون، يتجهز الناس هناك دوما للمفاجآت غير المتوقعة، ويبني كل منهم بيته وهو يعلم أن الأيام قد لا تسعفه للمقام فيه.
‏مطلع العام الجاري، وفي قرية جنوبية نائية فوق تل صغير، نجا سكانها من سيل وإعصارين وزلزال ضربوا جميعا قريتهم في شهر واحد.. عرف الناس أن تلك النجاة لن تجلب لهم إلا مزيدا من التحدي، فخطوا على التل عبارة أكثر تحديا للمحيط العظيم: ما نزال على قيد الحياة!
‏يتداول الناس هناك أحاديث حول الألواح الأرضية أسفل القارة الجنوبية، تقول تلك الأحاديث -التي اتضح فيما بعد أنها تقارير علمية حقيقية- إن الألواح تحمل الآن فجوات ضخمة، وأن انزلاقا كبيرا بات وشيكا سيقصم ظهر القارة بأكلمها تاركا ملايين القتلى.
‏يمزح سائق التاكسي: حين يحصل الزلزال لا أحد سينجو، فمياه المحيط ستتكفل بمن سينجو من الأحجار.. كان الحديث في بدايته حول ظاهرة الانتحار، حين بادر بقوله: الشباب في بلادنا لا ينتحرون، لماذا يفعلون؟ لا داعي للاستعجال.. سيموتون في الزلزال على أية حال.
‏لا يبدو أن هناك موقعا آمنا في ذلك الكوكب، الناس كل الناس تصارع من أجل البقاء، لا متوسطو الكوكب آمنون، ولا المتطرفون سالمون من غدر المياة.. لكنّ عزاؤهم أن الموت الذي يلاحقهم يأتيهم محملا بغلاف القدر الصريح، لا عبر همجية بشرية كالتي نعاصرها في بلادنا. 
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.