عادة الأطفال السرية | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

عادة الأطفال السرية


يبقى الطفل الكبير صامتًا أيامًا يحاول استيعاب ما حل بالواقع المصري في نسخته الجنرالية الكئيبة، يعجز عن تفسير ما وصل إليه الحال، ثم تبهت التفاصيل في عينه يوما بعد يوم، فلا يجد فيها ما يغري للاحتفاء، فيستكين حينا، ثم يعود من جديد إلى أناشيد الطفولة الأولى، هناك حيث قطز وصلاح الدين، وجولانار!

عادة الأطفال السرية

 للأطفال عادة؛ يرسمون في خيالاتهم حياة أخرى من أفلام الكارتون، حياة هم أبطالها، هم المحركون لها، الواضعون لتفاصيل مشاهدها.. باتمان، بن تن، كونان، وغيرها من شخصيات الكارتون الأسطورية الشهيرة، دائمًا ما يهرب الأطفال إليها؛ حالمين في الوصول عبر تلبسهم إلى الحياة التي يرغبونها. هذا سر تعلقهم الحقيقي بأفلام الكارتون.

الصغير الذي يهوى الطيران، يتخيل نفسه "باتمانًا" صغيرًا يطير في شوارع المدينة، ليدخل من شرفة الجارة، ومن ثم ينهال ضربًا على زوجها الظالم الذي يراه يضربها كل يوم، ليفوز في النهاية بنظرة فخر وامتنان في عيون الجارة الطيبة.. هكذا ببساطة صار بطلًا. حياة جميلة، لا منغصات فيها، البطولة فيها سهلة على الإطلاق، لا تحتاج أكثر من عيون مغمضة وخيال واسع.

تظل تلك الخيالات تطارد الأطفال حتى بعدما يقطعون من العمر شوطا كبيرا، فيكبرون ويكبر داخلهم شغف الاستدعاء والتخيل، حتى بيد أن جزءا ما بداخلهم يصر على أن يستدعي روح الطفل بداخله، أو يترك علامة على أن روح الطفولة في خاطرنا لم تزل بكرا، وعصية على أن تتلاشى مع حوادث الأيام.. أو لعل ثمة سبب آخر!

ربما الدافع الرئيس إلى ذلك الهروب الوهمي هو البحث عن بطولة، عن قيمة لنفسه في تلك الحياة، عن دافع للفخر والغرور الحميد، عن مساحة للبوح إلى أساطير الشجاعة، وفرصة للدخول إلى ميثولوجيا صناعة النصر والصمود، يبلغ هذا الأمر مداه حين يكون الطفل (وقد صار شبابا) يواجه واقعا كئيبا لا يبشر بأن ثمة نصر أو انفراجة في الطريق.

لكن بعض الأطفال يمتلك تجربة مختلفة، نعم يهرب إلى حياة وهمية كالبقية، لكن أبطاله ليسوا سوبر مان ولا أمثاله. وإنما بطل من أفلام حطين والقسطنطينية وعين جالوت. هذه كانت حياة الهروب التي يحياها الطفل كل مرة يستمع فيها إلى أناشيد الانتصار، أو بالأحرى، الحياة التي كنت أستدعوها بتلك الأناشيد.

مصر، لم يكن فيها ما يغري الطفل الصغير بالفخر والزهو؛ كل شيء فيها كان كئيبًا قاتمًا. لذلك؛ كان السعي للبحث عن بطولة خارج الحدود، لكن بعد الثورة، تغير الأمر شيئًا كبيرًا؛ لم يعد على هاتف من الأناشيد القديمة إلا ما يحفظ في الذاكرة أننا مررنا من هنا. احتلت أناشيد الثورة المصرية مكان أختها الكارتونية التراثية. الآن، لدى طفل طفولتي ما يهرب إليه في مصر لكي يشعر بالفخار.

نعم، سيتخيل حين يسمع أغاني الثورة أنه يقود تظاهرة في العباسية أو يلقي خطبة في التحرير ينصح للمعتصمين ألا يغادروا الميدان وألا يسلموا ثورتهم لمن يعبثون بها. سيتخيل نفسه يهتف على رأس الآلاف وهم يرددون خلفه: "الشعب يريد..."، سيصنع من خيالاته سيناريو مكتمل الأركان لمشهد بطولته الزاخر المهيب.

ثم تغيرت الأحوال فجأة حين ارتقى اللباس العسكري سدة المشهد، يتغير كل شيء فجأة، يتغير كليا.. يهرع طفل الذاكرة إلى مصر، فلا يجد فيها ما يدعوه للفخر أو شعور البطولة، لا يجد فيها ما يشجعه على نسج حياة أخرى في خيالاته المصرية بطلًا قاهرًا فائقًا؛ تشح عليه مصر بباعث للأنا، وترفض أن تمنحه حق الانتصار الوهمي ولو في الخيالات والشعور.

يبقى الطفل الكبير صامتًا أيامًا يحاول استيعاب ما حل بالواقع المصري في نسخته الجنرالية الكئيبة، يعجز عن تفسير ما وصل إليه الحال، ثم تبهت التفاصيل في عينه يوما بعد يوم، فلا يجد فيها ما يغري للاحتفاء، فيستكين حينا، ثم يعود من جديد إلى أناشيد الطفولة الأولى، هناك حيث قطز وصلاح الدين، وجولانار!
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.