أحمد مكي.. أن تغني لليوتوبيا!
ما رأيك أن يحدثك شاب من مواليد العام 1980 بأحاديث جدتك عن العصور الخالية و"أيام زمان"؟ أو أن تجد غالب كلماته في زمن الماضي؟ أو أن يبكي على الزمان المنصرم وتفاصيله المفقودة؟ أو ألّا يملّ من تكرار الحديث عن الموضوع نفسه كل مرة، حتى تبدو كلماته نسخا مكررة عن بعضها؟ أو أن ينتقد جيل الإنترنت في عمل فني يعرضه على اليوتيوب، ويقيس نجاحه بعدد مشاهداته من جمهور الإنترنت ذاته!؟
على الرغم مما قد يبدو عليه الأمر تافها، إلا أن زاوية خطيرة تقبع خلفه، تحتاج تأملا دقيقا وفحصا عميقا للوقوف على أبعادها.. ظاهرة ربما ستخصص لها الدراسات الاجتماعية فيما بعد حظا وافرا من النظر، وستفتح لها منافذ التدقيق في الجامعات أبوابها.
كيف غيرت التكنولوجيا حياتنا؟ كيف ابتلعت التفاصيل؟ ما هو الجيل؟ وكيف يمكن أن يدفن التسارع التقني أجيالا كاملة؟ أو أن يصيب شبابا في منتصف أعمارهم بالعجز النفسي عن مجارته؟.. هل يمكن اعتبار "يوتوبيا مكي" أول ظواهر تأثير عصر منصات التواصل على ديموغرافيا البشر؟
ليس في الأمر من التهويل شيء، جيل مكي هو آخر أجيال ما قبل عصر شمول الإنترنت، لذا هو الأكثر مقاومة له، وتشبثا بالقديم، وبكاءً على الأطلال.. هو الجيل الذي يعيش كل لحظة مفارقة العصرين، الجيل التائه بين المساحتين.
إن مصطلح الجيل اختلف كثيرا هذه الأيام، قديما كان الجيل يعني من عاشوا نحو مئة سنة أو يزيد.. نقول جيل الستينيات، وجيل السبعينيات. التطور كان بطيئا، من السهل أن تجد قواسم مشتركة بين سكان الأرض لقرن كامل.. اليوم، يبدو هذا الأمر مستحيلا، فمواليد التسعنيات وحدهم يمكن تصنيفهم إلى أجيال مختلفة.. جريان الحياة صار أسرع منا، التقنية تبتلع تفاصيل تاريخ الأجيال.
أول مرة تابعت فيها مسلسلا عبر الإنترنت، تحدثت إلى أخي كثيرا عن الفوارق بين متابعة عمل فني عبر التلفاز على الطريقة القديمة، وبين مشاهدته عبر الإنترنت في جلسة واحدة. لحظات شعرتُ فيها بأنني تحولتُ إلى جلوريا ستيوارت وهي تحكي قصتها للأطفال في المشهد الأخير لفيلم تايتانيك.
انظر كم الأمر مضحك؟ أنا -ابن السبعة والعشرين عاما- أحكي عن "ذكرياتي" التي لا يعرفها أبناء جيل أخي الذي يصغرني بـ 3 سنوات! هل تدرك الآن كيف تبتلع التقنية تفاصيل التاريخ؟ لقد أصبحنا عواجيز وأصحاب قصص حصرية لمجرد أننا أدركنا أياما قبل اختراع الهواتف الذكية أو الإنترنت!.. بإمكاننا اليوم أن نحكي للصغار قصصا يفتحون من غرابتها أفواههم، بينما نحن نتذكرها كأنها بالأمس القريب!
هذا ما يعانيه مكي، لكن على نطاق أوسع.. لا يمكن اعتبار هذه الأغنية تغريدة منفردة في حياة الشاب العجوز، فالحقيقة أن أغلب أغاني مكي لا يكاد يخرج عن ذلك التيه، ألم يفتخر يوما بأنه لا يملك حسابا على فيسبوك، وخصص لذلك أغنية كاملة؟ ألا تزخر أغانيه بالفعل الماضي الذي يضعك في قالب الجالس في قعر الجدة وهي تحاكيه قصص طفولتها العتيقة؟
المفارقة التي حملتها أغنية مكي الجديدة "وقفة ناصية زمان"، أنها تحمل جملا كاملة -من حيث الكلمات والألحان- مقتبسة من أغاني سابقة، مثل الجملة التي يقول فيها: "منطقتي هي.. الطلبية"، وهي كلمات مطلع أغنيته السابقة "منطقتي" التي كانت تدور حول الموضوع ذاته، الحنين إلى الماضي والبكاء على الأطلال.
لقد استكان مكي للبكائيات حتى رجع بالزمن إلى درجة الحديث بلسان من سبقوه، فمكي المجاور للثلاثين من عمره، يحدثنا عن الطالبية التي لم تكن تعرف المخدرات، بينما رائحة الحشيش تفوح في جلسات الناصية منذ سبعينيات القرن الماضي.
الشاب مكي المحبوس داخل ذكرياته في شارع الهرم في التسعينيات، ولا يدرك أن تربية الكلاب والحمام، وانتقاد الموبايل والإنترنت، لا يليق بجمهور الإنترنت الذي نشر عليه أغنيته، ليشكو جمهور الإنترنت الذي لم يعد يربي الكلاب ولا يعرف كيف يعتني بالحمام!
على مكي أن يتوقف قليلاً عن البكاء على الأطلال، وأن يتوقف عن الافتخار بأنه منخلع عن جيل الإنترنت، وأن يكسر تلك الثنائية التي خلقها في خاطره بأن الذائبين في عالم التواصل الافتراضي منخلعون بالضرورة عن تاريخ منطقتهم وتراث أهلهم، وأن يعرف أن اللحاق بالتقنية أولى من الاستسلام للنوستالجيا والوعظ.
شاهد أيضا