في الحقيبة كتاب دين | Ammar Metawa | عمار مطاوع | المدونة

في الحقيبة كتاب دين


خُلقت الأعلام لترتفع وتنخفض وتُمزق وتحترق وتُصان وتهان، فما علاقة اسم الله بهذا كله؟ ولماذا يتحول العلم من قصده الأساسي إلى ورقة دينية تستخدم بسذاجة وبلاهة؟ ومنذ متى تكتسب الدول احترامها من تلبسها بشعارات دينية في قلب مواضع الرمزية؟

في الحقيبة كتاب دين


لم يكن معتادا أبدا أن تصطدم بكلمات عربية في رحلتك في ثنايا تلك البلاد، العرب هناك كائنات فضائية لا يُعرف الكثير عنها سوى من الأفلام المدبلجة للإسبانية، لكن فجأة يطل من بعيد شبح لافتة خضراء في أيدي المتظاهرين تبدو مألوفة للعرب المارين، اتضح بعد أن تلك الزاوية البعيدة هي حي السفارات، وأن تلك الراية هي علم بلاد الحجازيين، وأن تلك التظاهرة كانت لأسباب سياسية تتعلق بالتمويل في البلاد.

بدأتْ فقرة حرق الأعلام، علم أميركا في المقدمة، وأعلام دول أخرى.. ثم العلم الأخضر المزين بكلمة التوحيد والسيف الأبيض. بدا الغضب واضحا في ملامحنا، ليست غضبة للعلم الممزق قدر ما هي غضبة لكلمة الله التي تحترق. يمر يوم، ويجاورنا في المقهى رجل بسيط من أهل البلاد، يمسك بتلابيب جريدة محلية تتصدرها صورة تظاهرات الأمس. يتواتر الحديث، يشيد بالشباب وحماستهم، وبقدرتهم على فعل ما لم يقدروا هم على فعله.

يأخذ صديق ناصية الحديث: لكنه يحرقون كلمات دينية؟ يستنكر الرجل: لا يفعلون! يجيب الصديق: علم السعودية مكتوب عليه لا إله إلا الله.. فيجيب الرجل باستنكار أكبر: وهل يكتبون اسم الله على علم البلاد! مجانين هم؟.. في النهاية، لم يكن يدور بخلد أحد من الجالسين أن يرتفع سقف الحوار إلى تلك الدرجة من الفلسفية، راح الرجل يتحدث عن تعريف العلم، وقيمته، وكيف أنه يكون أول ما يُهان في أي فعل احتجاجي متجاوز للأقطار.

لا يتهم الرجل الشباب الغاضبين، وإنما يعتبر أن أصحاب العلم الأخضر هم المسؤولون عن إهانة دينهم حينما طبعوا اسم الله على علم بلادهم، ليتركوه عرضة للانتهاك السياسي والفني والشعبي، وأن الشباب لا يحتاجون إلى دراسة دلالات الأعلام، وإنما يحتاجون فقط استحضار رمزية العلم لا أكثر.. و"حين يحرق الساخطون علم بلد فإنهم يحرقون علم بلد، لا شيء أكثر. العلم غالٍ يا صديقي، لكنه ليس الكتاب المقدس" يقول الرجل.

استدعى حديث الرجل موقفا في ذاكرة الطفولة، حين اشترينا كرة قدم يزينها أعلام دول كأس العالم، وكان من بينها السعودية، وكانت راية "لا إله إلا الله" مطبوعة عليها.. عشنا أياما نحترق غضبا من الأعداء الماكرين الذي يتعمدون أن يهينون ديننا، ونفتخر بنباهتنا وقدرتنا على كشف الخدعة.. لكن حينما أتذكر ذلك الموقف اليوم، أجد الأمر أكثر بساطة، فالرجل الذي صمم غلاف الكرة يجلس الآن ربما في ضاحية صينية، وهو على الأرجح رجل لا يعرف العربية، ولا يعرف السعودية حتى!

في الرابع من يونيو هذا العام، نشرت المغنية شاكيرا صورة تحتفل من خلالها بتصدر إحدى أغنياتها قائمة المشاهدات في 27 دولة، كان من بينها السعودية.. الصورة ضمت أعلام البلاد الـ 27، وإلى جوارها إحدى لقطات الأغنية، فكان رد تويتر السعودي حملة غاضبة تتهم المرأة بإهانة الإسلام! لماذا؟ لأنها تقف شبه عارية إلى جوار لا إله إلا الله! لم يلتفت الغاضبون إلى أن شعب "لا إله إلا الله" ضمن الأكثر استماعا للأغنية العارية، لكنه شاكيرا هي المجرمة لأنها جاروت العلم المقدس!

حتى في السعودية نفسها، حين احتفلت ممثلة شابة باليوم الوطني عبر ارتداء علم البلاد، تغافل الغاضبون عن أجواء الاحتفالات وما صاحبها على بعد أمتار من بيت الله، بينما اتهموا الممثلة بأنها أهانت الدين لأنها جلست على كلمة التوحيد المقدسة التي زينت فستانها. دعاوى قضائية، ومنع من الظهور الإعلامي، ونداءات بسحب الجنسية، واستدعاء لفضائحيات.. هكذا تحول فعل الفتاة من احتفاء بالعلم إلى إهانة لله ورسوله وجماعة المؤمنين.

لكن -وبتجرد كامل- من الذي يهين مقام اسم الله؟ المتظاهرون وشاكيرا وصاحب مصنع الكرات؟ أم من أقحموا اسم الله في لافتة يتوقف دورها في الترميز السياسي لا الديني وتخضع لاستخدامات الاحتجاج الشعبي والاستهلاك الفني؟ ما فائدة وضع اسم الله على علم بلد ثم معايرة من ينتهك العلم -قصدا أو سهوا- بإهانة الرب والإسلام، على طريقة تلاميذ الابتدائية حينما يتقاذفون الحقائب، ولما يخسرون شجارا يصيحون: في الحقيبة كتاب دين!

خُلقت الأعلام لترتفع وتنخفض وتُمزق وتحترق وتُصان وتهان، فما علاقة اسم الله بهذا كله؟ ولماذا يتحول العلم من قصده الأساسي إلى ورقة دينية تستخدم بسذاجة وبلاهة؟ ومنذ متى تكتسب الدول احترامها من تلبسها بشعارات دينية في قلب مواضع الرمزية؟ العلم كناية عن أرض لا دين، واسم الله أعظم من أن يستهلك على بطاقات تشجيع مبارايات كرة قدم أو صدر راقصة أو نيران تظاهرة.. أو كما قال الرجل: "العلم غالٍ يا صديقي، لكنه ليس الكتاب المقدس".
شاهد أيضا
شارك

عمار مطاوع

Ammar Metawa صحفي مصري مقيم في أمريكا الجنوبية، أكتب من الأرض المنفصلة عن الجانب البعيد من لاتينا، حيث يؤمن الناس بالأساطير والحكايا أكثر مما يؤمن الشرقيون بالعقائد والأديان، ويرسمون حياة فريدة تكسر لدى مَن يجاورهم نمطية الأفكار وجمود التصورات.